الثلاثاء 2018/02/27

آخر تحديث: 12:04 (بيروت)

فالح عبدالجبار... القلب يخون أجسادنا الهشة

الثلاثاء 2018/02/27
فالح عبدالجبار... القلب يخون أجسادنا الهشة
"ذاكرتي اللبنانية مديدة تشكلت في سبعينات القرن الماضي
increase حجم الخط decrease
قبل أيام كتب الباحث العراقي فالح عبدالجبار، في وداع صديق له: "اجسادنا الهشة، أقفاص الفناء تسرف في الوعود ولا تفي إلا بالقليل"، ربما لم يكن يعلم فالح، أن القلوب أيضاً تخون "أجسادنا الهشة" برغم اخلاصها المديد. وفالح خانه قلبه حين كان ضيفاً للحديث في برنامج وثائقي عن العراق في "قناة الحرة عراق"، وأثناء حديثه عن حضارة (بلاد ما بين النهرين) وعن الجنائن المعلقة ومسلة حمورابي، عن بابل واكد، عن النجف والكاظمية.. توقف قلب فالح عن النبض، وهو يردد: "لا اقوى على التنفس واشعر بدوار شديد".. القلوب لها توقيتها، لها لحظة تقول لاجسادنا الهشة وداعاً. الموت لا يأخذ إذناً، ولا يحدد مكاناً، ولا يعفي مقاماً، الموت هو الموت، لكنه في الوقت نفسه يفرز أشكالاً من الصدمات والأحزان، الأمر يرتبط باللحظة.

رحل فالح عبدالجبار في بيروت، المدينة التي قال عنها "أحبها بأضعاف ما يمكن أن تحبني"(كتابه أوراق الجنون)، وقال "ذاكرتي اللبنانية مديدة تشكلت في سبعينات القرن الماضي وانقطعت في ثمانيناته ثم عادت في مبتدأ الألفية الجديدة"، وأوراقه في الكتاب تلقي الضوء على الشخصية اللبنانية وتناقضاتها وحروبها ومجتمعها وناسها وأحزابها واقتصادها، كتبها في إطار سرد يومي سوسيولوجي خلال حرب تموز 2006، قال "لن أكتب عن الأشلاء المتطايرة ولا عن المعارك، بل عن الإنساني، اليومي، المعاش، والشخصي"، بوصفها شهادة فرديّة عن لحظة زمنيّة فارقة.

كان لافتاً مدى الصدمة التي تركها رحيل فالح عبدالجبار لدي محبيه وعارفيه وأصدقائه، فهو لم يكن مجرد باحث عابر، كان له اسمه وموقفه ودوره وسياقه الفكري في الندوات والمقابلات والأبحاث والمركز، كان يسارياً وعلمانياً وانتقد بشكل جذري العلمانيين واليساريين في العراق. كان موسوعياً وقارئ كتبه قلّما يمر بعبارة بدون سند واضح، أسمه فالح وأفلح في الكتابة عن العراق رغم أنه بقي يعيش في المنفى أو يستهوي الحياة في بيروت ومقاهيها، وقد ركز بحوثه على علم اجتماع الدين والدولة والعلمانية والعولمة والقضية الكردية، كما اهتم بدراسة التشكيلات الاجتماعية وبنى ما قبل الدولة، كالعشيرة والطائفة، ودورها في تكوين الأمم.

وتناول موضوعات المجتمع المدني والطبقات الاجتماعية والدراسات الماركسية، وكرس سنوات طويلة من حياته البحثية لترجمة كتاب "رأس المال" لكارل ماركس، الذي صدرت طبعته العربية في ثلاثة مجلدات، كما أصدر كتابين عن ما بعد الماركسية أحدهما بالعربية والثاني بالإنكليزية حمل عنوان "ما بعد الماركسية والشرق الأوسط". وحتى في كتابه المثير للجدل "ما بعد ماركس" أخضع عبدالجبار الكثير من تاريخ الفكر الماركسي إلى مقاربات الدرس الثقافي، بالمختصر كان يقارب معظم المواضيع الثقافية والدينية والدنيوية، وله حضوره في الثقافة الانكليزية، يقول البروفسور بيتر سلوغلت، في كلمته عن "كتاب الدولة.. اللوياثان الجديد": "هذا نص مثير، ذو أصالة مميزة، تبعث على الإعجاب، إن عمل بطاطو (حنا) عن العراق أكثر إسهابا، وأكثر اهتماما بالأفراد، لكنه لا يمتاز بهذه السعة النظرية، وهذه الإحاطة التي تسم مسودة اللوياثان الجديد". ويضيف سلوغلت: من يقرأ هذا الكتاب لن يفكّر في العراق ثانية بالطريقة التي اعتادها من قبل. إنه تتمة ضرورية لكل ما سبق، أعجبت كثيرا بتحليل أصول التوتاليتارية، فهو بديع شأن، بحث الصلة بين الربعية النقطية والدكتاتورية، أما بقية الفصول، الإيديولوجي والقرابي، واستقلالية الدولة، وخضوع المجتمع وصولا إلى التفكك والأزمة، فبارعة.

وفي كتابه الذي صدر مؤخراً بعنوان "دولة الخلافة: التقدّم إلى الماضي، (داعش) والمجتمع المحلّي العراقي" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017)؛ يقدم عبدالجبار تحليلاً موسّعاً عن المجتمع المحلّي العراقي في الفترة التي سبقت ظهور "الدولة الإسلاميّة" وبعد ظهورها، وذلك من خلال رصد وقراءة التفاعل بين المجتمع المحلّي المتمثّل في السكّان، وبين مؤسّسات الدولة الأكثر صلةً مع الحياة اليوميّة، مقدّمًا كلًّا من المحاكم الشرعيّة وأجهزة الحسبة وديوان بيت المال مثالًا.

من الصعب الاحاطة بمقالة صغيرة بثقافة فالح عبدالجبار وأدواره ومواقفه من بيروت الى كردستان. ومن الصعب تغطيه كل مساره سواء في منفاه او حبه لبيروت أو عيشه في دمشق أو صلته بجمهورية عريضة من الشعراء والروائيين والمفكرين بدءا من مهدي عامل (حسن حمدان) مرورا بالجواهري وعبدالرحمن منيف... كان فالح ناشطاً ثقافيا ومجتهداً سواء في الأبحاث الدسمة أو الترجمات، حتى إنه في 16 كانون الاول 2017 كتب في الفايسبوك "هذه سنة عجيبة، في أولها صدر كتابي (ترجمة) رحلة إيطالية –غوته. عمر الترجمة 17 سنة. فقد أنجزتها عام 2000 واختفت ثم عادت". "الثاني: كتاب الدولة –اللوياثان الجديد –انجز عام 2005 بالإنكليزية وترجم عام 2008 مع إضافات، وبقي بالأدراج حتى صدر الآن.
الثالث: دولة الخلافة – التقدم الي الماضي. انجز أواخر عام 2015 ولم يصدر الا قبل أسابيع. أخيرا وليس آخرا: الاستلاب –وهو عمل أكاديمي أنجزته عام 1990 بإشراف البروفسور يندريش زلني. يصدر كاملاً لأول مرة. اعتذر للأصدقاء على زُحام الإصدارات"...

كتب فالح في ختام سنة 2017 عن بياض تلك السنة الآفلة، وفي بدايات 2018 كتب اصدقاء فالح عن حزنهم برحيله.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها