السبت 2018/02/24

آخر تحديث: 12:26 (بيروت)

جيسيكا عازار والمتنبي ولبنان

السبت 2018/02/24
جيسيكا عازار والمتنبي ولبنان
increase حجم الخط decrease
في تعليقها على تغريدة للاعلامية ديانا مقلد، تطال اللواء جميل السيد، ترحمت الحسناء جيسيكا عازار على المتنبي، وكتبت بيتاً شعرياً نسبته إليه يقول: "أكلما اغتال عبد السوء سيده صار له في لبنان ترشيح". لا أعرف من أين استقت جيسيكا عازار هذا البيت! ولا أدري ان كان غيري سأل السؤال نفسه!؟ أين حراس المتنبي؟ اذ قلنا أن الشطر الأول(الصدر) منه قرأناه في قصيدة المتنبي التي قالها في هجاء حاكم مصر كافور الاخشيدي، لكن من أين أتت الزميلة جيسيكا بالشطر الثاني(العجز)؟ فتكملة البيت في القصيدة الدالية للمتنبي تقول "أوْ خَانَهُ فَلَهُ في مصرَ تَمْهِيدُ"، ربما اختارت جيسيكا ان تكمل البيت من عندها على سبيل المزاح، مع التذكير بأن المزحة في زمن الانترنت، يتعاطى معها بعض الجمهور باعتبارها حقيقة، والكثير من الشعر تم تزويره أو نُسب إلى غير أصحابه بسبب بعض الأخطاء المشينة.

والقصيدة الداليّة للمتنبي، هي احدى أشهر الهجائيات في الشعر العربي، إن لم تكن أشهرها، وتتضمن الهجاء اللاذع والعنصرية. وجمالها وحكمتها بيّنتان لمن يحسن تقديرهما، ومناسبتها أن الرفيق "أبو الطيب" وصل إلى مرحلة اليأس والقنوط والإحباط في مصر، وأهمل مجالسَ كافور، فما عاد يتردد عليها. وحين كانت تُطلب منه قصيدة مادحة، كان يرفض. وقبل أن يطفح الكيل، جاء إلى كافور وسأله صراحة عن وعده بحكم ضيعة أو ولاية أو أي مكان... وبَيَّن له أنه ما قدِم إلى مصر إلا بعدما اطمأنّ إلى وعوده البراقة. فأجابه كافور: "أنت في حال الفقر وسوء الحال وعدم المعين سَمَتْ نفسك إلى النبوة، فإن أصبتَ ولاية صار لك أتباع، فمن يطيقك؟". وكان كافور حذراً، فلم ينل المتنبي منه مطلبه، واستقر في عزمه أن يغادر مصر بعدما خذله كافور، فغادرها في يوم عيد، وقال يومها قصيدته النارية التي ضمنها ما في نفسه من مرارة على كافور وحاشيته، والتي كان مطلعها:
عيد بأية حال عدت يا عيد
بما مضى أم لأمر فيك تجديد

ويصف المتنبي كافور بأنه كان مخصياً ويصل الى حاشيته

لا تَشْتَرِ العَبْدَ إلاّ وَالعَصَا مَعَهُ
إنّ العَبيدَ لأنْجَاسٌ مَنَاكِيدُ


المتنبي الذي كان يفوق شعراءَ عصره جزالةً ومعنًى ونرجسية (ثمة من يقارنه بنيتشه الألماني)- لم يكن سوى بوق من الطراز الرفيع، كلمته ثاقبة ومدمرة وقاتلة بل إنها قتلته، فحياتُه التي تنقَّل فيها ما بين الشام ومصر والعراق، لم يكن له هدفٌ غير انتقاء الحكام البارزين والاتصال بهم، من سيف الدولة الى كافور، حيث مكنته موهبةُ الشِّعر من ذلك؛ طمعًا في كسب المال والجاه والسلطة.



وبات استعمال بعض أبيات المتنبي في السياسات والردح، أمراً مألوفاً وله أشكاله وألوانه وناسه، يكون معبراً تارة ومتبذلاً تارة أخرى... لكن ليس من العادات أن تكون فصاحة المتنبي حاضرة في أروقة "تلفزيون المر"، أو لدى بعض موظفيه، ويبدو استعمالها سوريالياً في زمن اللغة الهجينة والعربية المكسّرة. فعدا جيسيكا عازار، سمعتُ صحافياً في برنامج بيار رباط يقول:

وإذا أتَتْكَ مَذَمّتي من نَاقِصٍ
فَهيَ الشّهادَةُ لي بأنّي كامِلُ
 

وذلك رداً على خصوم "تلفزيون المر"، ولم يفصح الصحافي لمن هذا البيت، وشعَر مقدّم البرنامج الفرانكوفوني بسعادة عارمة وهو يسمعه وكأنه يكتشف الشعر للمرة الأولى...

وبين استعمال جيسيكا الشعر، واستعمال زميلها، يبدو الشعر الكلاسيكي "خشبة خلاص اللغة". كان الشعر في زمن غابر هو الناطق بلسان القبيلة، أو لسان حالها، وما كان يقوله الشاعر كأنه قناة تلفزيونية في زمانه. انتفى زمن الشعر الآن وصار أقلوياً، ومع ذلك، في مرات كثيرة، يستعان بالشعر الكلاسيكي كأنه "ضربة قاضية" في اللغة والرد والهجاء. ولهذا استنفر الرجل الأمني على جيسيكا ورفع دعوى قضائية ضدها، وعلت نبرته بالكلام النابيّ...

وإذا كانت جيسيكا عازار كتبت تعليقها المنسوب إلى المتنبي في زمن الانتخابات النيابية، فاللافت ويا للمصادفة، أن الرفيق "أبو الطيب" كان طامحاً أن يكون والياً على صيدا ولهذا مدح كافور ولما لم ينل مراده، هجاه الهجاء المر. وأكثر من ذلك، دخل المتنبي لبنان في تنقله بين بلاد الشام ومصر، ومرّ ببعلبك وجبل لبنان، وزار طرابلس مرتين، وذكر تفاح لبنان في شعره، كما ذكر مدينة صور وبلدة نحلة.

وكان دخوله للمرة الأولى بين العامين 325- 330 للهجرة تقريباً، ومدح والي طرابلس "عبيد الله بن خراسان بن عبد الله بن حيدرة الطرابلسي". وكان والياً عليها للدولة الاخشيدية، أو قبلها بقليل.  
 
وقال يذكر "عبيد الله بن خراسان" والي طرابلس: 

إن ترُمني نكبات الدهر عن كثبٍ
ترم امرءاً غير رعديد ولا نكسِ
 
لما هرب أبو الطيب من طرابلس، اختار أن يقصد دمشق عن طريق جبال الأرز حتى لا يلحق به رجال اسحاق بن ابراهيم بن كيَغْلغ، فواجه الصعاب وهو يصعد فيها، إذ كانت مكسوة بالثلوج. وكان أبو علي هارون بن عبد العزيز الأوراجي الكاتب، يذهب إلى التصوف وينقطع في الجبل بعيداً من الناس، فقصده وبات عنده، ونظم فيه قصيدة مطلعها:

أمِنَ ازديارَكِ في الدُجى الرُقباءُ
إذ حيثُ كنتِ من الظلام ضياءُ
قلَقُ المليحةِ وهْي مِسكٌ هتكُها
ومسيرُها في الليل وهْي ذُكاءُ
 
إلى أن ذكر جبال لبنان فقال:

بيني وبين أبي علي مثلُه
شمُّ الجبال ومثلهنّ رجاء
وعقابُ لبنانٍ وكيف بقطعها
وهو الشتاء وصيفهنَّ شتاء
لَبَسَ الثلوج بها عليّ مسالكي
فكأنها ببياضها سوداء
وكذا الكريم إذا أقام ببلدة
سال النُضار بها وقام الماء
جمد القِطار ولو رأته كما ترى
بُهتَتْ فلم تتبجَّس الأنواء

ولما انقضت زيارته لهارون الكاتب، انحدر نحو بعلبك ووصل قرية "نحلة" (شمال بعلبك) وأحس بأنه يقيم بين أعداء، ولهذا كان يهوّم وهو نائم على صهوة حصانه وعليه درعه ولامته على رأسه، مستنفراً متحفزاً للقتال أو للفرار، وذكر ذلك في قصيدة جاء في الديوان أنه قالها في صباه، مطلعها:

كم قتيلٍ كما قُتلتُ شهيد
لبياض الطُّلى وورد الخدود
وعيون المها ولا كعيونٍ
فتكتْ بالمتيّم الأثْلةِ المعمودِ

ومنها:

كل شيء من الدماء حرام
شُربُه ما خلا دم العنقودِ
فاسقنيها فِدى لعينيك نفسي
من غزالٍ وطارفي وتليدي
شيبُ رأسي وذلّتي ونحولي
ودموعي على هواك شهودي
أي يوم سررتني بوصال
لم ترُعني ثلاثةً بصدودي

وقال يذكر قرية نحلة البقاعية:

ما مقامي بأرض "نحلة" إلا
كمقام المسيح بين اليهود
مفرشي صهوة الحصان ولكـ
ـن قميصي مسرودة من حديد
 
في كل الأحوال، كان استعمال جيسيكا لجزء من بيت المتنبي ظريفاً، وبين الشعر والأمن والانتخابات، نفضل التضامن مع الحسناوات.

(*) نورد قصة مرور المتنبي في لبنان نقلاً عن مراجع أدبية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها