السبت 2017/09/09

آخر تحديث: 12:37 (بيروت)

"ضباب" ستيفن كينغ: الخوف أم همجية الإنسان؟

السبت 2017/09/09
"ضباب" ستيفن كينغ: الخوف أم همجية الإنسان؟
هل الخوف مرتبط بالشرّ بصيغة ما، يدفع إليه، أو يفترض أن ينتج عنه؟
increase حجم الخط decrease
تحتفظ الروايات بمكانتها المركزيّة كمرجعية للسينما والدراما، تُستقى منها أعمال متجدّدة، وذلك في الاتّكاء على الحكاية والمعالجة الفكرية، ثمّ يأتي دور الفنون البصرية في تقديم تصوّرها لتلك الأفكار المطروحة والحكايات المسرودة بما ينسجم مع تقدّم الوسائل وتوسّع دائرة الإنتاج، وكم رأينا مؤخراً أعمالاً سينمائيّة تستلهم أجواء روايات عالمية وتبني عليها.


يثير الموسم الأول من مسلسل "The Mist"؛ "الضباب" من تأليف كريستيان توب وإنتاج شركة "NETFLIX" 2017، الذي تمّ استيحاء عوالمه من رواية الأميركيّ ستيفن كينغ (1947) أسئلة من قبيل: ما الذي يفعله الخوف بالإنسان حين يستحوذ عليه ويستوطن كيانه؟ هل الخوف مرتبط بالشرّ بصيغة ما، يدفع إليه أو يفترض أن ينتج عنه؟ إلى أيّ حدّ يتسبّب الغموض في بثّ الذعر في النفوس؟ كيف يتداخل الخوف بالشرّ والعنف في وقت قصير؟ أي خلطة جنونيّة ستكون نتاج هذا التداخل المأسويّ؟

رواية "الضباب" التي كانت قد تحوّلت إلى عمل سينمائيّ قبل سنوات، تصوّر هبوط ضباب كثيف على بلدة صغيرة يتسبّب بفظائع مدمّرة فيها، تظهر مخلوقات وحشيّة من أزمنة بعيدة تفتك بالناس.

من المتعذّر التذكير بأحداث المسلسل الكثيرة والمثيرة والمتداخلة، هناك المعلمة التي تسعى إلى تسليح الجيل الجديد بالثقافة الجنسية، والتي تطاولها اتّهامات متجدّدة بأنّها كانت عاهرة في ماضيها، تحاول حماية ابنتها المراهقة ذات الـ16 عاماً من الانسياق وراء طيش المراهقة، وتحذّرها من الوقوع في شراك شبّان قد يسيئون إليها.

تكون المشادّة بين السيدّة إيف، وزوجها كيفن، بداية شرارة الأحداث التي تدخل مرحلة دموية فجائعيّة تالياً، ينحاز الأب إلى رغبة ابنته، يتواطأ معها لتحضر حفلة يقيمها شبّان مراهقون في البلدة، ويشترط عليها أن يرافقها أدريان إلى الحفلة، وألّا تشرب أيّ مشروب كحوليّ وألا تتعاطى أيّة مخدّرات، وتوافق الابنة أليكس، سعيدة، وترافق الفتى المثليّ أدريان الذي يكون في أعماقه وحشاً يسعى إلى الانتقام من جميع الناس.

تتعرّض الابنة للاغتصاب في الحفلة، ولا يُعرف الفاعل، تدور التكهّنات حول الشابّ الذي دعاها للحفلة؛ جاي، وترفع أمّها دعوى ضدّه، وهنا تبدأ دائرة الغموض بالاتّساع.. فالشرطي الذي يتفانى في تأدية مهامه والتزامه بواجباته، يجد نفسه متورّطاً في سلسلة من الإشكاليات.

هناك شخص يرتدي زيّ الجنود، يفيق مصدوماً في غابة بعيدة، فاقداً ذاكرته، تكون معه بطاقة عليها اسم أحدهم، يظنّ أنّه اسمه، ويكون برفقته كلبه الذي ينبح على شيء يلوح بين الأشجار، ثمّ حين يركض إليه في محاولة لاستكشافه يتمّ قتله بطريقة وحشيّة من قبل قوى غير مرئية، يكون الضباب مكتنفاً دائرة القتل الوحشيّة، يوسّعها، يتنقّل مع الهواء، يعطّل تفاصيل الحياة كلّها، يندسّ إلى كلّ مكان، يتسلّل بهدوء قاتل، يدمّر أينما يصل، يحوّل الناس إلى ممسوسين بوساوس مجنونة، ينكبّون على قتل بعضهم بعضاً، يضيعون بين الواقع والوهم، تقودهم مخاوفهم التي تسحقهم في بحيرة الشكّ القاتلة.

يحتجز عدد من الناس في أمكنة محدّدة، هناك محتجزون في مركز تجاريّ يقعون فرائس الخوف والجوع، يبدأون بوضع قوانينهم الخاصّة لتسيير شؤونهم في تلك المحنة التي يمرّون بها، تكون إيف محتجزة بدورها مع ابنتها هناك، تحاول إبقاء الأمل في قلوبهم، تكابد مرارتها وتتجرّع سموم لحظات الجنون التي تعيشها وتشهدها، لكنّها لا تقع في مستنقع اليأس، تبقى متمسّكة بعزيمتها، مدفوعة بقوّة الأمومة الجبّارة المجاهدة للحفاظ على وحيدتها.

هناك أيضأً عدد من المحتجزين في كنيسة البلدة، يبقون بدورهم في دائرة الذعر الذي يفتك بهم، ويدفعهم إلى اقتراف جرائم بحقّ بعضهم بعضاً.. تدور مساجلات بين امرأة تعدّ نفسها رسولة الطبيعة والقسّ الذي يعدّ نفسه مندوب الإله، كلّ واحد منهما يدافع عن موقفه، كما يصبح لكلّ منهما أتباع وأعداء في الوقت نفسه، وتكون الحرب في دواخلهم موازية للحرب التي تشنّها قوى غريبة خارقة عليهم. وكلاهما يقضي بطريقة تراجيدية تالياً.

يتناقص الناس المحتجزون تباعاً، تتعدّد سبل القتل الوحشيّة، يتحوّل الناجون إلى وحوش بشرية، يفتكون ببعضهم بعضاً. تنجلي بعض خيوط الغموض وتنكشف بعض الأسرار المخبوءة تباعاً، يكتشف كيفن أنّ أدريان هو من اغتصب ابنته، وأن الشابّ الذي اتهمَ بريء من ذلك، ويكاد يفقد حياته على يدي أدريان المتوحّش، ثمّ يقع مرّة أخرى بين براثن أولئك المحتجزين في المركز التجاريّ الذين يجبرونه وزوجته وابنته على الخروج من هناك، يطردهم بطريقة مذلّة، يدفعهم إلى الموت المتربّص بهم في الخارج، في قلب الضباب والظلام.

ينتقم كيفن من أولئك الذين يطردونهم خارج المركز، يحطّم الباب الخارجيّ بالسيارة الوحيدة التي ظلّت شغّالة في البلدة، يفتح المجال للضباب كي يتغلغل إلى الداخل وينكّل بهم، ثمّ يمضي برفقة بضعة ناجين معه إلى ما يظنّ أنّه قد يكون مهرباً لهم، وحين يسمع هدير قطار متوجّه إلى محطة البلدة، ينتابه مزيج من الأمل والخوف والشكّ، يوقف السيارة ويراقب ما الذي سيحصل، فيجد أناساً يلقون بآخرين إلى الضباب الكثيف، يقول إنّهم يطعمونه؛ يطعمون الوحش.

يُبقي العمل خيوط الغموض معلّقة، يحرّض لدى المتابع رغبة التأويل والتخمين والتحليل والمشاركة في السؤال والتشكيك. وكأنّه يرمز إلى أنّ الضباب هو الوحش النهم الذي لا يرتوي من دماء ضحاياه، الوحش مجهول المصدر؛ الغامض الذي ينشر الرعب والقتل والدمار في كلّ مكان، كما يرمز إلى همجيّة الإنسان في مواجهة مخاوفه، وأنانيّته في تغليب مصلحته وسعيه للنجاة وإن بقتل الآخرين بلا تردّد.

يوحي العمل كذلك بقوى غير مرئية، وغير محدّدة، ربّما تكون تابعة للجيش، ربّما تجري تجارب جنونيّة تعبث فيها بسلامة الأرض والبشر، تنكّل بالطبيعة وتقدّم البشر قرابين على مذابح مشاريعها المجنونة وتجاربها العدوانيّة.. كما يبرز كيف أنّ خيالات المرء يمكن أن تغدو ألدّ أعدائه، وكيف أن عدوّ المرء يخلق من أعماق مخاوفه يدمره حين يغلّفه الضباب ويتلبّسه بطريقة مرعبة. ويشير إلى أنّه حين يجد المرء نفسه محصوراً في مكان مغلق، خائفاً من قوى لا يستطيع تحديدها، ولا مواجهتها، ولا معرفة ماهيّتها، يبدأ بالتخبّط، يقع أسير الشكّ والرعب، تتفعّل لديه غرائز البقاء والتشبّث بالحياة، يتقهقر إلى عتبة العنف ليحتمي بها، يصدّر عنفه لمَن حوله، وأحياناً لأقرب مقرّبيه.

لعلّ في الإمكان تصنيف المسلسل المبنيّ على أحداث رواية كينغ؛ والذي يعدّ أحد أكثر الكتّاب دخلاً في العالم، في إطار أعمال الرعب، كما يمكن تصنيفه في سياق أعمال الغموض والإثارة، أو في إطار الأعمال التي تقارب أسئلة نفسيّة ووجوديّة، ناهيك عن إثارة كثير من الأسئلة عن عوالم الموت وتعدّد أسبابه وأساليبه، ووقوع الإنسان فريسة شكوكه وهذياناته وجنونه.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها