في كتابه "عقيدة الألوهية" يقدم أبو شادي ما نفهم من خلاله الطبيعة الباطنية للماسونية. فهو يؤكد في البداية أن "عقيدة الألوهية من الناحية الفلسفية العلمية هي ظاهرة سيكولوجية، هي إحساس الجزء بالكل، وهي تتدرج تحت أسماء مختلفة من شعور الإنسان نحو وطنه ونحو زعيمه، ونحو الانسانية مثلاً، إلى شعوره نحو الكون بأسره ونحو الألوهية الشاملة والمطلق".
يطرح أبو شادي إذن صوفية تعترف بضعف الإنسان وبحاجته إلي اختلاق الأوهام وتتبعها، ويرى أن الأمر حاجة نفسية داخل البشر. لكن بينما يوجه البعض هذه الحاجة إلى غيبيات تصب في مصلحة التعصب والكراهية، أو إلى مصالح فردية لبعض رجال الدين، أو تَصنع متصوفة ومتدينين رافضين للعلم والتطور، يدعو أبو شادي إلى صوفية يكون أساسها العِلم، تتفكر في الكواكب والنجوم والكون وتسعى إلى فهم قوانينها كي تكون جزءاً منها، أو كما يقول في قصيدته:
وأحس أني في اندماج دائم ..... بالكون، والكون العظيم حياتي
أتأمل الساعات في أجرامه .... وكأنني متأمل في مرآتي.
تبدو أفكار أبوشادي وكأنها انعكاس للأفكار الصوفية الماسونية التي تتكرر لدى الماسونيين الفرنسيين. فمن أجل خلق رابطة أخوية، تتجاوز مفَاهيم العرق والطبقة والوطن والدين، سعت الماسونية إلى خلق طقوسها السرية، وإكساب هذه الطقوس طابع التأمل الذهني والممارسة الصوفية المتصالحة مع العِلم والكون. فحتى الماسونيين الملحدين، الذين لا يؤمنون بأي دين، يجب عليهم الإيمان بقانون أو مهندس عظيم للكون، خلف كل هذا النظام والعمران. ولهذا تأتي أي وثيقة ماسونية، سواء بالعربية أو الفرنسية أو الانكليزية، حاملة الجملة الماسونية الأشهر "باسم مهندس الكون الأعظم".
هو ليس اسماً دينياً، لكنه ذو دلالة دينية، ولا يتعارض مع أي تصور ديني للإله في الأديان الثلاثة. في الوقت ذاته، يعكس الرؤية الماسونية بأن هذا الإله لا يلهو، بل هو مهندس –زميل إذن للبنّائين في "البناية الحرة"!- ونحن على شاكلته نسعى إلى تعمير الأرض وهندستها. حتى الآن، ما زالت غالبية المحافل الماسونية الدولية، تصدر تلك العبارة في بياناتها، وإن بدأت محافل في فرنسا تستبدلها بعبارة أخرى، هي: "باسم مجد الإنسانية".
في مقاله الشهير، الذي نشر في العام 1943 في مجلة "التاج المصري" الماسونية، يكتب سيد قطب تحت عنوان "لماذا صرت ماسونياً؟": "الماسونية هي الوحدة التي تجمع بين مختلف الأديان ولا تعرف للتحزب معنى، ولن تجد لكلمة التعصب مكاناً في شرعها، هي التعويذة السحرية التي تؤلف بين القلوب جميعها في أقصى الشرق أو أدنى الغرب – هي المكان الوحيد الذي يستطيع فيه الجميع – الصغير منهم والكبير أن يتصافحوا مصافحة الأخ لأخيه – ويجلسوا جنباً إلى جنب – دون نظر إلى فارق اجتماعي أو مركز أدبي – ولا غرو في ذلك إذ أن دعائمها وأسسها مشيدة على الحرية والإخاء والمساواة – فما أعظمها دعائم وما أقواها من أسس وما أبذلها من مبادئ".
كأن الماسونية أنقذت المعاني الروحية للعالم القديم. فبينما كانت السكك الحديد تنتشر حول الكوكب، والماكينة تُنصّب إلهاً للحداثة ولإنسان القرن التاسع عشر، كانت الماسونية تطرح إمكانية المزج بين الروحانية والمادية العلمية، والاستفادة من الطاقة الروحانية النابعة من حاجة سيكولوجية لدى الإنسان، لتوظيفها في خدمة قضايا التنوير والإخاء وتقدم الإنسانية. خلقت الصوفية العلمية تصورات عن أشكال أكثر تعقيداً للوجود، لا يمكن الوصول إليها بعلمنا المادي الحالي، لكن من خلال الحياة نزيهة تسودها قيم المحبة والاخاء، يمكن بلوغ أشكال أخرى من الوجود أكثر طهراً وسعادة.
هذه الروحانية التي يتقدم فيها العضو الماسوني من دون شيخ طريقة أو مرشد، سوى التأمل الشخصي والتجريبي، كثيراً ما أدت ببعض المحافل الماسونية إلى الانحراف عن طريقها والسقوط في غياهب الميتافيزيقيا، وهو ما أدى إلى تداول المبالغات الشهيرة في شأن الطقوس الماسونية، مثل شرب الدم، وعبادة الشيطان، والسحر الأسود، وأخيراً حفلات الجنس الجماعي. والأخيرة هي الأغرب، لأن المحافل الماسونية ليست مختلطة. وفي مصر، حتى نهاية الماسونية، كانت عضوية المحافل مقتصرة على الذكور، ويتم تأسيس جمعيات خيرية للسيدات.
غير أن الصوفية العلمية، والطقوس الباطنية المصاحبة لها، شكّلت عائقاً كبيراً أمام المحافل الماسونية في حراكها داخل المجتمعات العربية وحتى على المستوى العالمي.
في كتاب "المنظمة الماسونية والحق الإنساني"، والذي ترجمته للعربية د.جورجيت الحداد ونشر عن "دار الكتاب الجديد" (بيروت 2008)، تخبرنا المؤلفة أندريه برات، أن الماسونيين شاركوا في الثورة البلشفية الروسية، وكانوا جزءاً من التحالف الذي يقود الثورة وصولاً إلى المؤتمر الثالث للبلاشفة والذي أعلنت فيه "الأممية الثالثة"، إذ فرضت على الأحزاب الاشتراكية التى ترغب في الانتساب إلي الأممية الثالثة (الكومنترن) 21 شرطاً أبرزها قطع الصلات مع الماسونية، وذلك لأن الماسونية ذات "روحانية برجوازية"، على حد وصف زينوفييف - أحد رفاق لينين المقربين.
كانت الصوفية العلمية هي ما جعل من الماسونية حركة لامعة في القرن التاسع عشر، لكنها أيضاً الثغرة التي شكلت ركيزة للهجوم عليها. وفي عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث ترسخت سلطة الدولة الوطنية وسيادتها، وتكاثرت الأجهزة الأمنية والاستخباراتية حول العالم ضمن صراع الحرب الباردة، ما عاد هناك مكان لتنظيمات سرية أو باطنية. وأحد التفسيرات حول سبب حل عبد الناصر لكل أشكال التنظيمات الماسونية في مصر، هي رفض المحافل الماسونية لكشف طقوسها الروحانية السرية لأجهزة الدولة الأمنية، وهو ما أدى إلى غلق باب الماسونية العربية نهائياً.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها