السبت 2017/07/08

آخر تحديث: 13:50 (بيروت)

في معنى ذاكرة الخليل.. منتصرة على إسرائيل

السبت 2017/07/08
increase حجم الخط decrease
أدرجت منظمة الأونيسكو مدينة الخليل والحرم الإبرهيمي في لائحتها للتراث العالمي، باعتبار البلدة القديمة في الخليل "منطقة محمية" كموقع "يمتاز بقيمة عالمية استثنائية"، ما أثار موجة من الغضب الإسرائيلي واعتبار المنظمة "منحازة" للجانب الفلسطيني. ورغم الضغوط الإسرائيلية المتواصلة لمنع إصدار القرار، صوتت لجنة التراث العالمية التابعة للأونيسكو بغالبية 12 صوتاً، ومعارضة 3 وامتناع 6 عن التصويت. ورداً على قرار الأونيسكو، قررت إسرائيل حسم مليون دولار من مدفوعاتها للأمم المتحدة، وتحويلها لبناء ما سمّته متحفاً للتراث اليهودي في مدينة  الخليل. ووصف رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو قرار الأونيسكو بالوهمي...

في خريف العام 2009، انشأت مجموعة من المثقفين والناشطين(*) لجنة عالمية للدفاع عن تراث مدينة الخليل القديمة، فأطلقت حملة اعلامية واسعة، ومن بين المشاركين في الحملة كان الفنان الفرنسي ارنست بينيون، الشهير بجدارياته، والذي أبدى حماسة شديدة للمشاركة في حملة الخليل واقترح أن يلصق رسومه على جدران المدينة القديمة متحدياً جنود الاحتلال، لكنه لم ينفذ مشروعه لأسباب لم يذكرها...

تعتبر الخليل من أقدم المدن المسكونة في العالم، اذ يعود تاريخها إلى 5500 عام. وقد شكلت خلال التاريخ ملتقى لطرق تربط بين مصر وجنوب بلاد الشام وشبه الجزيرة العربية، كما أنها أدت دوراً مهماً كمركز اقتصادي ثقافي، وكمركز للحج بالنسبة للأديان السماوية الثلاثة. ويعتقد أن المدينة من أصل كنعاني، وُجدت فيها آثار تشير إلى وجود مدني في العصر البرونزي المبكر (في حدود النصف الثاني من الألف الثالث قبل الميلاد)، وسيطرت عليها - كما في بقية فلسطين- العديد من القوى، من الأشوريين العام 732 ق.م، والبابليين العام 586 ق.م، والفرس العام 539 ق.م، والإغريق العام 322 ق.م، وإنتزعها منهم الرومان في العام 63 ق.م. ثم انتقلت إلى قبضة البيزنطيين في العام 593م، إلاّ أنّ الفرس احتلوها منهم لبضع سنوات، ثمّ عاد الروم البيزنطيون فاستعادوها مرة أخرى، وأخرجوا الفرس منها، وانتقلت إلى سيطرة العرب المسلمين في القرن السابع الميلادي.

وبحسب الرواية التوراتية، فإن النبي ابراهيم أبو الأنبياء، انتقل اليها بعد هجرته من مدينة أور السومرية، فاستقر في منطقة قمرا الواقعة على مسافة 3 كيلومترات شمالي وسط المدينة الحالي. وسميت المدينة عند العرب، نسبة الى نبي الله ابراهيم الخليل، كما ان اسمها العبراني hebroun يعني ايضا خليل الله. وهذه التسمية نسبة للملك عفرون الحثي الكنعاني، الذي باع المغارة لإبراهيم من دون مقابل، وبحسب الرواية التوراتية، بأربعة شواقل وكان الشاقل العملة الكنعانية. 

العهد الإسلامي
أعيد تأسيس مدينة الخليل في أوئل العهد الاسلامي على مقربة من الحرم الابراهيمي، وأصبحت تعتبر مدينة مقدسة على غرار القدس ومكة والمدينة المنورة، يقصدها الحجاج ليزوروا الحجرات التي تشكل القبور الرمزية للأنبياء ابراهيم وإسحق ويعقوب... وقد شيد الأمويون سقف الحرم الحالي والقباب التي فوق مراقد إبراهيم ويعقوب وزوجتيهما. في العصر العباسي أنشأ الخليفة المهدي مدخلاً عند السور الشمالي الشرقي بارتفاع 3,5 أمتار، وركّب باباً حديدياً صغيراً للحرم الشريف، وفي ظل السيطرة الفاطمية أضيفت تطورات عمرانية على الحرم الإبراهيمي، فبُني دور للزوار حول المسجد، وأنشئ بناء التكية الإبراهيمية بجوار الحرم، وظلّ الحرم الإبراهيمي يشع بنوره طيلة العصر الإسلامي السابق على قدوم الصليبيين.

سقطت مدينة الخليل في أيدي الصليبين العام 1099 واستولى عليها الأمير غودفروا البويوني وحولها إقطاعية افرنجية ومطرانية. وقد طُرد المسلمون واليهود من المدينة، واستبدل الجامع الذي كان قد بُني في العهد الأموي، بكنيسة كاتدرائية سميت مار ابراهيم. استعاد صلاح الدين المدينة إثر موقعة حطين العام 1187، فحافظ على مبنى الكنيسة وحوّله الى جامع وجهّزه بمنبر خشبي أتى به من عسقلان(غزة). وشهدت المدينة تطوراً ملحوظاً في العهد الأيوبي بسبب علاقتها بالقدس، قبل أن تعرف عهدها الذهبي في الزمن المملوكي. حين دخل المماليك الخليل في العام 1250، شهد الحرم الابراهيمي تحولات كبرى، اذ جدد الظاهر بيبرس قبة المسجد الرئيسة، وجدد الحجرات التي تحتوي على القبور الرمزية للأنبياء، وبنى لاحقاً مسجداً جديداً خارج الجدار في عهد الناصر بن قلاوون، وصار يعرف باسم مسجد الجاولية، كما أضيفت مآذن على زاوية المبنى.

ويقول المهندس جاد تابت أن الاستمرارية التاريخية للنسيج المملوكي في مدينة الخليل، تشكل ظاهرة فريدة في العالمين العربي والإسلامي، إذ على الرغم من أن هذه المدينة القديمة لا يمكن مقارنتها بمدن مملوكية أخرى كالقاهرة أو دمشق، من حيث الحجم أو من حيث الأهمية، إلا انها تمتاز عن تلك المدن بأنها حافظت على الشكل المديني الذي نشأ في عهد المماليك، فيما شهدت المدن الأخرى تحولات جذرية غيرت في معالمها وطابعها المديني. إنها مجموعة خلايا تتفاعل لتشكل تركيبة متراصة...

وتميز العهد المملوكي بالرخاء الاقتصادي فتطورت الزراعة والصناعة، وأصبحت الخليل مركزاً للبريد بين دمشق والقاهرة، وقد ازادادت الهجرة الى المدينة من طرف مجموعات عرقية ودينية مختلفة، كالأكراد الشركس الذين انشأوا حارات خاصة بهم. وتعود جميع الحارات التي ما زالت قائمة حتى الآن الى الفترة المملوكية، كما ورد في كتب الرحالة، واكتفى العثمانيون بمجرد تكثيف استعمال المساحات وزيادة طبقات المباني القديمة، والتوسع نحو الأطراف الخارجية للمدينة. أما مساكن المدينة في العصر العثماني وخاصة في نهاية هذا العصر، فقد تقاربت وتلاصقت؛ ما أدى إلى التوسع الرأسي على حساب التوسع العمراني الأفقي؛ فكانت المساكن متلصقة، مشكلةً سوراً للمدينة، وتتكون من طبقات ثلاث وهي: سفلي، ووسط، وأحياناً تعلو الثانية طبقة أخرى تسمى "القصر" أو "العلِّية"؛ وإن دل هذا على شيء فإنما يدل على وفرة مواد البناء (الحجارة والكلس والطين...) وزيادة حجم الأسرة الذي أدى إلى الازدحام السكاني.  

وصف (البلوي) أبو البقاء خالد بن عيسى (توفي قبل 780هـ/1378م)، مساكن الخليل، وربما يكون قد انفرد هو بين الرحالة المسلمين والأجانب، الذين زاروا المدينة بذكر لون مساكنها ووصفه باللون الأبيض الذي تشوبه خضرة الحدائق الملتفة حولها والمكتنفة بساحاتها، قبل الحنبلي بحوالي 120 سنة تقريباً. وكانت هذه المساكن تتكون من طبقة واحدة في الغالب، أو اثنتين؛ أما مداخل الأحواش فقد كانت منخفضة، ولم يكن لها أبواب كبيرة تطل على الشارع، في ما عدا بعض المساكن القليلة، وهي عادة ما تكون مظلمةً وعميقة، على شكل دهليز ينتهي بقاعة فسيحة تسمى "الفناء" أو "الصحن"، وفي إحدى زواياه يوجد صهريج للمياه لحفظ مياه الأمطار. أما في الداخل فكانت الوحدات السكنية تتوزع عليه، كما كانت تخصص حجرة كبيرة تسمى "القاعة" (لاستقبال الضيوف) وهي تطل على الفناء أو الصحن.

ووصف الاصطخري (توفي 346هـ/957م)، طبوغرافيا الخليل في رحلته، فقال: "المدينة في وهدة بين جبال كثيرة كثيفة الأشجار، وأشجار هذه الجبال، وسائر جبال فلسطين، وسهلها: زيتون، وتين، وجمّيز وعنب، وسائر الفواكه أقل من ذلك". أما ابن بطوطة الذي كانت الخليل إحدى محطاته، فيقول: "ثم سافرت من غزة إلى مدينة الخليل في داخل المسجد الغار المكرم المقدس فيه قبر إبراهيم وإسحق ويعقوب، ويقابلهما ثلاثة قبور هي قبور أزواجهم". وكتب المقدسي: "حبرى هي قرية إبراهيم الخليل. فيها حصن منيع. يزعمون أنه من بناء الجن من حجارة عظيمة منقوشة، وسطه قبّة من الحجارة إسلامية، على قبر إبراهيم وقبر اسحق، قُدَّام في المغطى، وقبر يعقوب في المؤخر. حذاء كل نبي امرأته. وقد جُعل الحبر مسجداً وبني حوله دور للزّوار. واختلطت فيه العمارة ولهم قناة ضعيفة. وهذه القرية إلى نحو نصف مرحلة من كل جانب قرى وكروم وأعناب وتفاح، تسمى جبل نصرة لا يُرى مثله، ولا أحسن من فواكهه، عامتها تحمل إلى مصر وتنشر. وفي هذه القرية ضيافة دائمة وطبّاخ وخباز وخدام، مرتبون يقدمون العدس بالزيت لكل من حضر من الفقراء. ويدفع إلى الأغنياء إذا أخذوا. ويظن أكثر الناس أنه من قرى إبراهيم وإنما هو من وقف نميم الداري وغيره. والأفضل عندي التورُّع عنه"...

الاحتلال البريطاني
انتقلت مدينة الخليل بعد الحرب العالمية الأولى الى سلطة الانتداب البريطاني، شأنها شأن الأراضي الفلسطينية كافة، وبنتيجة ازياد الهجرة اليهودية الى فلسطين، ونمو الفكرة الصهيونية، زادت حدة التوتر بين العرب واليهود الذين عاشوا تحت الانتداب، فوقعدت صدامات أدت الى نشوب مواجهات عنيفة في مدينة الخليل كانت نتيجتها أن غادر السكان اليهود المدينة سنة 1929. وكانت المدينة تعرضت لكوارث الجراد والأوبئة التي اجتاحتها في العام 1927 فضلاً عن بداية الأزمة الاقتصادية العالمية 1929 و1932. وساهمت تشريعات حكومة الانتداب البريطاني في تدفق المزيد من المهاجرين اليهود الى فلسطين، والمزيد من الاضطرابات والنكسات.

بعد هزيمة حزيران/يونيو1967 رزحت الخليل تحت الاحتلال الاسرائيلي، فشرع المستوطنون اليهود يحتلون المواقع على مشارف المدينة وفي داخلها. ومنذ العام 1968 تأسست على الحدود الشرقية للمدينة مستعمرات كريات أربع التي تشكل اليوم أكبر مستعمرة اسرائيلية في الضفة الغربية. ومن ثم أقيمت، العام 1979، أربعة مواقع استيطانية داخل المدينة القديمة تشكل المواقع الاستطانية الوحيدة التي انشئت في قلب مدينة فلسطينية.

ومع ان عدد المستوطنين الذي أقاموا مواقع استطانية في المدينة القديمة لا يتعدى 500 مستوطن، إلا أن الجيش الاسرائيلي يفرض سيطرته الأمنية حالة حصار على السكان الفلسطينيين، فيحظر عليهم التجول في المناطق الجنوبية والشرقية التي تحيط بالمدينة القديمة، ومنذ 1994  فرض الجيش الاسرائيلي اقفال شارع الشهداء الذي كان يشكل شرياناً حيوياً أساسيا للسكان الفلسطينين يؤدي الى الحرم الابراهيمي وسوق الخضر المركزي ومحطة الحافلات. وخلال شهر رمضان، العام 1994، دخل مستوطن يهودي يدعي باروخ غولدشتاين المسجد الابراهيمي وارتكب مجزرة، فقتل 29 مصلياً وجرح العشرات، وعند تنفيذ المذبحة أغلق جنود الاحتلال الموجودون في الحرم ابواب المسجد لمنع المصلين من الهرب كما منعوا القادمين من انقاذ الجرحى... وفي أعقاب المجزرة، قسم الجيش الاسرائيلي المسجد وحول جزءاً منه الى كنيس يهودي ضم الحضرة اليعقوبية واليوسفية، بينما بقيت الحضرة الإسحقية للمسلمين. وطبقت سياسية الفصل والاقصاء والتمييز العنصري تجاه السكان الفلسطينيين الذين باتوا يعيشون حصاراً داخل الحصار، أما غولدشتاين الذي انقض عليه المصلون وقتلوه، فدفن في مكان قريب من مستعمرة كريات أربع، مثل قديس يزور قبره المستوطنون.

خلاصة
لم يكن عمل اللجنة العالمية للدفاع عن تراث مدينة الخليل القديمة، الا جزءاً من صراع مفهوم المدينة في مواجهة مفهوم المستعمرة، كما يلخّص المهندس جاد تابت المشهد، ويسأل: ماذا يعني أن تدرج مدينة الخليل في لائحة التراث العالمي للأونيسكو ضمن قائمة فلسطين؟ ويقول:
إنه أولاً تقدير للعمل الجبار الذي قام به الفلسطينيون لاسترجاع ذاكرتهم المفقودة واعادة بث الحياة في احجار ميتة. وثانياً، هو اعتراف من المجموعة الدولية بأن المدينة القديمة، بما في ذلك الحرم الابراهيمي، تشكل جزءاً من التراث الفلسطيني، الأمر الذي يعني نزع الشرعية عن ادعاءات اسرائيل بأن الحرم الشريف ينتمي إلى تراث الدولة العبرية. إنه أيضاً إقرار بأن تراث فلسطين هو تراث مركب يحتوي على عناصر عديدة، يعود بعضها الى الديانات السماوية الثلاث، وهو ما يدحض ادعاءات الصهيونيين باحتكار تمثيل التراث اليهودي. وخطوة الأونيسكو هذه تعني أخيراً، شهادة بأن قضية فلسطين لا علاقة لها بالتعصب الديني أو العرقي او القومي، بل إنها في الاساس قضية لها أبعاد أخلاقية وسياسية وفكرية كبرى تخاطب ضمير الانسانية.


(*) استندت المقالة الى بعض المراجع التراثية والموسوعات، إلى جانب محاضرة لنقيب المهندسين اللبنانيين جاد تابت بعنوان "الخليل القديمة، أبجدية الاحتلال والتراث المقاوم"، ألقاها في الجامعة الأميركية ونشرت في مجلة "دراسات فلسطينية".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها