الثلاثاء 2017/07/18

آخر تحديث: 12:11 (بيروت)

"إشتباك": فيلم التعايش في زمن الفوضى

الثلاثاء 2017/07/18
increase حجم الخط decrease
في فيلم "اشتباك"، يقدم المخرج المصري محمد دياب، واقعا مختلفا عما كان يجري في أصعب اللحظات السياسية التي مرت بها البلاد. متظاهرون مسجونون داخل شاحنة، منهم الصحافي، السلفي، الإخوان المسلمين والمؤيد والمعارض. يجمع دياب "الأعداء" لكنه يخرج من كل واحد فيهم الحس الإنساني. في جوف الشاحنة، الكل سواسية، الجميع متهمون إما لتأيدهم للإخوان المسلمين أو تحريضهم على التظاهر، لكن لا للعنف، لا للإقتتال، فقط الحوار هو الحل الوحيد في مكان مغلق محاط بالفوضى العارمة في الخارج.

الفيلم الذي افتتح في مسابقة "نظرة ما" في مهرجان "كان" 2016، ينقل الأحداث في مصر، بعد عامين من الثورة المصرية التي أطاحت بالرئيس حسني مبارك، وتلت عزل الرئيس المنتخب والعضو في جماعة الاخوان المسلمين محمد مرسي، في صيف 2013، بناء على قرارات عسكرية وسياسية. ففي ذلك الوقت، عمت الاحتجاجات في البلاد وانقسمت بين مؤيد ورافض لعزل مرسي. فما كان على الشرطة إلا لملمة المتظاهرين بشكل عشوائي وزجهم داخل شاحنة عسكرية. فأصبحت العربة تجمع صحفيين، وثوريين، ومؤيدين للاخوان المسلمين، ومناصرين للجيش، واطفال ومحايدين. وكأنها صورة مصغرة للواقع المصري بكامل أطيافه ولكن دون إتخاذ أي موقف من الأحداث الدائرة في المعترك السياسي المصري. مجموعة أضطرت أن تتعايش مع بعضها البعض في ظروف قاسية من عطش وارتفاع دراجات الحرارة ونقص الأوكسجين.

يقدم "اشتباك" الواقع المصري كما هو. نظرة متشائمة، بعد الثورة المفترض أن تغير مصير البلاد، لكن بات الوضع أسوأ مما كان وعاد "حكم العسكر". حاول المخرج إظهار الغضب وتقديم رؤية واضحة للمجتمع المصري بعد الثورة. إيديولوجيات مختلفة في مكان واحد. ردود أفعال متشابهة ومتناقضة. غضب وارتياح. خوف وطمأنينة. كره وحب. في هذا العمل لا مكان للخير أو الشر، بل هناك الإنسان الذي يتعاطف مع أخيه الانسان، وما يجمعهما أكثر بكثير مما قد يفرقهما.


هذا هو اطار الفيلم، بسيط على المستوى المادي، وواسع على المستوى السياسي، أما على المستوى السينمائي فهناك تحد كبير. يقدم دياب بطريقة ماهرة صورة عن بلده ومكوناته، مستفيدا من الشخصيات المختلفة التي يجمعهم مصير واحد. ما يميز دياب قدرته في التركيز على أدق التفاصيل في كل مشهد. حركة الكاميرا التي تظهر التناقضات والضياع، تغرق الشخصيات وحتى المشاهد في الارتباك الدائم، اذ يصبح صعبا التمييز بين العدو والصديق. وهل فعلا هناك عدو؟

لا يركز دياب فقط، على إظهار انطباعات الشخصيات وافكارهم، بل يأخذهم الى اقصى الحدود الجسدية والفكرية دون خوف. وتصوير الفيلم بأكمله داخل شاحنة الشرطة، يزيد الشعور بالقلق والإنزعاج والاضطهاد لدى المشاهد. وفي الوقت نفسه يصبح المشاهد جزءا من هذا الصراع، ويتشارك الأفكار مع الشخصيات. اذ يصل الأمر، الى أن يجد نفسه واحدا من المحبوسين داخل الشاحنة. وهذا ما يؤكد تميّز الفيلم، أي قدرته على إدخال كل مشاهد الى قلب الحدث واحتجازه دون أي مبرر.

الأحداث التي  تجري داخل الشاحنة، تضفو على كل ما يجري في الخارج، فقط بعض اللقطات التي تظهر الاحتجاجات في الشارع لكن ليست هي الأساس، فلا يمكن رؤية حقيقة ما يحصل. وليس هناك حقيقة واضحة لما يجري خارج الشاحنة، مما يزيد الشعور بالفوضى. والصورة الوحيدة للخارج مقيدة بنوافذ صغيرة، مدير التصوير احمد جبر، أيقن تماما ما يريد المخرج اظهاره، وقدم فيلما غارقا في المتاهة على الرغم من الصعوبة التقنية في تنفيذ المشاهد.

يظهر الفيلم الخوف، والحرج، والتعسف، وبطش السلطة. فليس مهما إن كنت سلفيا أو ضد الاخوان المسلمين، أم مع الثورة، بل الأهم طريقة تصرفك في هذه اللحظة التي قد تحدد مصيرك. ممكن أن تكون اليوم مسيطرا على كل شيء، ولكن بعد وقت معين ستصبح منبوذا. في الأمس كنت الصديق، أما اليوم فأنت مجرد عدو خطير، وربما في المستقبل القريب لن تكون سوى جثة على حافة الطريق.

"اشتباك" فيلم قريب جدا من الكوميديا الالهية لدانتي، المكونة من الجحيم، المطهر والفردوس، كعملية الانتقال من العصور الوسطى الى عصر النهضة والفكر. فيلم يترك انعكاسا عميقا لواقع بلد لا يزال قائما على حكم العسكر. "اشتباك" لا يقدم تنازلات، بل يضرب بقوة الخوف، والعذاب ويقدم بعض من الأمل.
(*) عرض في مهرجان "كرامة – بيروت" لأفلام حقوق الانسان
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها