الجمعة 2017/06/02

آخر تحديث: 13:01 (بيروت)

"لن أمنحكم كراهيتي".. رسالة غفران فرنسية

الجمعة 2017/06/02
"لن أمنحكم كراهيتي".. رسالة غفران فرنسية
يمنح لاريس قاتلي زوجته شيئاً لن يفهموه، البلاغة الأدبية
increase حجم الخط decrease
لا أتخيل أبداً ما الذي سأفعله إن فقدت ابناً، أو حبيبة، أو زوجة، في حادث إرهابي.. لا أتخيل كيف يكون ردّ فعلي، لكنه سيكون العجز على الأرجح وقلة الحيلة. هذه هي أبرز الأفكار التي انتابتني بينما أقرأ كتاب " لن أمنحكم كراهيتي"(*) للصحافي الفرنسي أنطوان لاريس الذي بدأ كتابته عقب مصرع زوجته "هيلين" في الاعتداء على مسرح "الباتاكلان" في 13 نوفمبر 2015. داهمه الفقد البشع، والحرمان المفاجئ من زوجته، وأم نجله الوحيد ميلفيل.


أب وابنه استيقظا بمفردهما
لم يناقش الصحافي الفرنسي أنطوان لاريس، أي قضايا أو مواقف سياسية تورطت فيها فرنسا، لا يدين أحداً، ولا اتجاه دولته للمشاركة في حرب ضد تنظيم داعش، بما يمكن أن يجلب عليها الهجمات الإرهابية التي أسفرت عن مقتل 129 شخصاً. جاء كتابه في شكل يوميات، بدأها بفَصل "ليلة الجحيم" حينما تلقى إشارة من هاتفه الأرضي تقول: هل كل شيء على ما يرام؟ هل أنتم في أمان؟


يتحرك لاريس على أطراف أصابعه صوب الهاتف، كي لا يوقظ صغيره ميلفيل، يفاجأ على شاشة التلفزيون بشريط الأخبار يعلن أولاً تفاصيل الهجوم على الاستاد في باريس، قبل أن يتبدل الشريط بكلمات: "هجمات على مسرح باتاكلان".

"هيلين هناك"
يروي لاريس وقائع تلك الليلة الصعبة بأسلوب مشوق، على الرغم من قسوة مصيبته الشخصية، وهو الصحافي ي القسم الثقافي بشبكة الراديو الفرنسي "فرانس بلو"، استخدم تقنية "اليوميات" ليحكي ما حدث خلال الأيام التي تلت مقتل زوجته هيلين في الهجوم، التفاصيل اليومية له ولصغيره ميلفيل، هي المهيمنة على مشاهد الكتاب وفصوله القصيرة. ففي الفصل الثاني، الذي يعنونه "الانتظار" ويمنحه تاريخ 14 نوفمبر الثامنة مساءً، يقول لاريس: "ينتظر ميلفيل. ينتظر أن يكبر حتى يستطيع أن يضيء نور الصالون. ينتظر أن يصبح راشداً بالقدر الكافي الذي يجعله يخرج من دون عربة الأطفال. ينتظر أن أعدّ له العشاء، قبل أن أقرأ له القصة. وفي المساء ينتظر عودة أمه قبل أن يخلد إلى النوم".


يصنع لاريس من تيمة الانتظار الأبدي، حكاية طويلة، ينفذ بها إلى تحليل شخصيات الإرهابيين الذين صبوا غضبهم عبر أسلحتهم الآلية، يصف الانتظار بالأبدي، رضوخاً لهؤلاء الإرهابيين، قبل أن يتلقى نبأ رحيل زوجته من شقيقتها.

يمر بنا مؤلف الكتاب إلى تفاصيل عنايته بصغيره، تلك المهام التي كانت من نصيب زوجته الراحلة، وانتقلت إليه. حكاية لميلفيل قبل النوم، اختيار الصفحات التي يرغب في أن يحكيها للصغير، وتخطي تلك التي تحوي حكايات شريرة، يشبهها بما يتناسب مع المصيبة التي يمر بها، يقول لاريس: "عندما وقعت خنفساؤنا الجميلة على أنف الساحرة الشريرة التي كانت بحوزتها بندقية كلاشينكوف، حكمت عليها بالموت بضغطة من إصبعها".

لا ينسى لاريس تدوين مشاعر المحيطين به تجاهه، يناقش قضية النسيان، وتخطي الكارثة: "عندما يعود كل منا إلى حياته، سنتعايش معاً وسيحدث ما يرغبون فيه.. أن أنسى وأتجاوز الأمر سريعاً". ثم يعود فيذكر نفسه باستحالة أن ينسى هيلين: "كيف لي أن أنسى وما زال جسدها النحيف جثة باردة؟ وما زال أثر قُبلتها الحارة على شفتي؟ وما زالت كلماتها ترن في أذني كلحن جنائزي تقشعر له الأبدان، عليّ أن أعانقها لأكون جزءاً من قصتها".

يناقش الزوج المكلوم، الكراهية، بصوت عال. لماذا يتبادلها الناس كلما أصابتهم مصيبة، يقول: كلما كانت الجريمة شنيعة، والجاني متلبساً بها، كانت أسباب الكراهية مشروعة، وينصرف تفكيرنا إليه حتى لا نفكر في ما ألمّ بنا، ونسلط عليه كراهيتنا حتى لا نكره حياتنا، ونُسرّ لموته حتى لا يُسرّ هو بموت من بقى منا".

يخلص لاريس من هذا التحليل إلى أنه لن يبني حياته على عداء أحد، ولن يلقي مسؤولية ما حدث على عاتق شخص آخر، كان الموت بانتظار هيلين في تلك الليلة، وهؤلاء لم يكونوا سوى سفراء الموت.

"أظلمت مدينة النور حينما أغمضت هيلين عينيها"
يتوعد لاريس قاتلي زوجته هيلين بطريقته، سيحرمهم من كراهيته، يكتب منشوراً في صفحته في "فايسبوك"، تخطى ربع المليون مشاركة. كان المنشور نواة الكتاب، يقول فيه: "مساء الجمعة سرقتم حياة إنسان استثنائي، حب عمري، أم إبني، لكنني لن أمنحكم كراهيتي، لا أعرفكم، ولا أريد أن أعرفكم، فأنتم بالنسبة إلي أرواح ميتة، وإذا كان هذا الإله الذي تقتلون من أجله بشكل عشوائي وهو قد خلقنا على صورته، فإن كل رصاصة في جسد زوجتي هي جرح في قلبه".


يمنح لاريس قاتلي زوجته شيئاً لن يفهموه، البلاغة الأدبية. يحرمهم من الكره والغضب، لأنهما في نظره مرادفان للجهل والرضوخ للخوف. يتوعد قاتلي زوجته بأنه لن يستسلم للخوف، وللتوجس ممن يعيشون معه في الوطن نفسه، أو الارتياب فيهم. يمنح لاريس قاتلي زوجته وعداً بالتمسك بحريته، من أجل أمنه وسلامته، وأن يستمر في حياته كما يريد رغماً عنهم. يعترف بأن الحزن يدمره، وسيدوم معه طويلاً، لأنه سيحُرم للأبد من هيلين، لكنه سيحتمي بابنه، الذي سيشكل معه شيئاً أقوى من كل جيوش العالم. تمضي حكاية لاريس في الفصول التالية من الكتاب، وتتردد بين سطورها عبارات  من قبيل "الحياة يجب أن تتواصل"، مثل روائي محترف يستعين بتفاصيل الحياة اليومية، لينقل لقارئ كتابه صورة حية من أيامه التالية على الواقعة. يحكي عن تفاصيل الإفطار، اللعب، النزهة، الموسيقى، الغداء، الحكايات، الأحضان، التي تجمعه وابنه، والعناية بصحته، والعشاء، يردد: "الحياة ستستمر، التمسك بعاداتنا اليومية هو طريقنا للهرب من كل ما هو مخيف وجميل".

يحكي في فصل عنونه "الوجبات المنزلية"، عن الوجبات التي تعدها نساء الجيران لطفله، والتي ينأى عنها طفله، مساعدات كثيرة انهالت عليه، تعرض تولي أمر ميلفيل، دعوات يتلقاها من شتى بقاع الأرض لقضاء الإجازات، إضافة إلى الهدايا.

وفي الفصل الذي عنونه "الانخراط في الحزن"، يحكي لاريس عن الشخص الذي يتعرض لمصيبة، وينتظر منه الناس أن يكون بطلاً، وأن يعلمهم الشجاعة، يقول: "أنا أعرف أنني لست بطلاً، فكل ما هنالك أن القدر أصابني ليس أكثر، أصابني بذلك المصاب، من دون أن يأخذ رأيي ودون حتى أن يسألني إذا ما كنت مستعداً لذلك أم لا".

يستمد الكتاب جماله من أوجه عديدة، أبرزها كشف الخوف الذي نمعن في تكتمه، الخوف من ألا نكون كما يرغب أن يرانا الناس، أو الخوف من الانهيار، يقول: "ألم يعد لي الحق في أن أكون خائر القوى، ضعيف العزم؟". يستمد الكتاب جماله من مكاشفة صاحبه بأحاسيسه تجاه زوجته الراقدة في تابوت، ورغبته في أن يعانقها للمرة الأخيرة، حكاياته عنها، وعن غرامه بها، وتعلقه الشديد بملابسها، وزجاجات عطرها في الحمام. تلك التفاصيل التي تجعل للكتب لحماً ودماً، كما يستمد الكتاب جماله من اعتراف صاحبه بأن ما كتبه لن يخفف عنه لأنه ببساطة لا أحد يستطيع أن يتغلب على الموت، إنما فقط يروّضه.


(*) صدر في مصر عن دار العربي للنشر، بترجمة صابر رمضان، بعد صدوره في فرنسا قبل عام، وتُرجم إلى 22 لغة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها