الإثنين 2017/05/15

آخر تحديث: 12:10 (بيروت)

سوريا في زمن الشارع المستقيم

الإثنين 2017/05/15
increase حجم الخط decrease
قبل أشهر قليلة، لفت إنتباه المصوّرة والناشرة الروسية زينيا نيكولسكايا صورة منشورة في صفحة فايسبوك صديقة، ملتقطة في سوريا منذ عشرات السنين، تجسّد حالة طبيعية من الحياة، فلا عنف ولا حرب ولا نزوح فيها، كما عهدنا في فيض الصور السورية، التي تسجلها عدسات نجوم مصوري الوكالات بتواقيعهم الطنانة. بعد تحقيقات دقيقة، توصلت نيكولسكايا إلى التعرّف على مصادر هذه الصور: محل صغير في أحد شوارع دمشق القديمة واسمه "الشارع المستقيم"، إهتدت إليه. واحد من محلات عديدة "تبيع كل شيء، حتى الكتب، ومنها كتاب عن فلاحات روسيات، عرضه عليّ صاحب المحل عندما إكتشف أنني روسية" قالت نيكولسكايا، التي دفعتها حشريتها لزيارة سوريا والبحث عن الصور القديمة، "ولو في زمن الحرب، وتقنين الكهرباء وكثرة لابسي المرقّط" حسب تعبيرها.


في وقت قصير، عثرت على ضالتها، وتحديداً على المحل الكائن في شارع محاط بأعمدة رومانية: "وجدتُ في المكان رمزيته الأركيولوجية. إنها أطلال رومانية، واحدة من تلك الطبقات المتراكمة التي تشهد على حضور إنساني".

قبل المجموعة السورية، نفضت نيكولسكايا الغبار عن العديد من المجموعات المصورة القديمة: مجموعة صور عمارات مصرية هدم معظمها أو عرضة للإهمال، مجموعة عمارات في أبخازيا هُدمت في زمن السوفيات. أما عملها الأضخم فعثورها على أعداد ضخمة من أعمال المصور الروسي أناتولي غارانين، الذي وثّق الحياة في الإتحاد السوفياتي منذ ولادته في العشرينيات وفي أثناء الحرب الباردة، لكنه نُفي من الذاكرة الجماعية ودُفنت صوره التي عاكست بروباغندا السوفيات.

عنونت مجموعتها السورية "عن الشارع المسمى مستقيم"، لتبتعد عن التأويلات التي قد تربطها بالحاضر: "من السخرية ربط هذه المجموعة في سياق ما يحدث اليوم في أوروبا مع قضية اللاجئين السوريين. لكن قد يجعل هذا الأرشيف الأوروبيين أكثر تفهماً لمن يلجأ إليهم، لأنهم صُعقوا لرؤية صور الرجال والنساء في كامل أناقتهم." قالت نيكولسكايا.

أكثر من محاولة إنقاذ لأرشيف مرئي قد تهدده الحرب، يهدف مشروعها المدعوم من متحف أوروبي يعنى بتراث دول شرق البحر الأبيض المتوسط، إلى تجسيد شخصيات الصور وأنسنتها. لهذا السبب، اختارت أربع مجموعات أساسية، عائدة إلى فترات زمنية تمتد من الخمسينيات حتى الثمانينيات. "ذلك أشبه بعلم آثار الصور. بدأت أتعرّف على شخصيات محددة عبر هذه المجموعات أتصور مسارات حيواتها. كما أدعو الآخرين لمشاركتي، كي نجد أثراً لهؤلاء الأشخاص، أو على الأقل لنعيد تركيب قصصهم، بطريقة أو بأخرى".

تناولت المجموعة الأولى شخصاً رياضياً "كان يعمل إطفائياً، وفي أوقات فراغه مدرباً في نادٍ رياضي"، توضح.  نراه في الصور، برفقة متدربين، أو وحيداً يبرز جماله الجسماني، يذكرنا بشخصيات الممثل الكوميدي الأميركي بوستر كيتون، أو المصوّرة الألمانية ليني ريفنشتال.

في حديثها عن المجموعة الثانية التي تحوي "صور هوية" للرجال، تتذكر بائع الصور الذي يضع تسعيرته وفقاً لمضمون الصورة أو موضوعها "صور النساء الأنيقات هي الأغلى سعراً، بينما تتدنى أسعار صور الرجال بشكل كبير. صور الهوية الأبخس ثمناً تتكدّس بأعداد ضخمة في علب معدنية، لكنها تسرد أجيالاً من السوريين" تقول.

من المجموعة ألبوم صور يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، يصوّر حياة عائلية: تذكارات، مناسبات وعطلات...

مجموعة أخرى تآلفت نيكولسكايا مع أشخاصها ونسجت حياتهم من جديد"صاحبة هذه المجموعة سيدة جمعتُ معلومات عنها وعن أفراد عائلتها وتفاصيل عن سيرهم من خلال الصور، وعن سمات الزوج من جواز سفره: القامة، لون العينين، المهنة (عاطل عن العمل). تابعت هذه العائلة لقطة بلقطة، في رحلاتها إلى الخارج، وفي إقاماتها في فنادق بيروتية، وفي سهراتها وحفلاتها ومناسباتها العائلية، ورحلات أبنائها المدرسية إلى مناطق سورية".

تضيف نيكولسكايا: "يجهل بائعو الصور كل شيء عن أصحابها، يعتقدون أن النساء الأنيقات هن زوجات دبلوماسيين أو شخصيات مرموقة، وربما لمغنيات. بهذه الطريقة يتصور كل من يشاهد مثل هذه الصور حيوات أشخاصها، كل حسب تخيلاته، لدرجة تكاد أن تصدق كل رواية. إننا نُسقط حكاياتنا الشخصية على الصور. ذكّرني بعضها بأفلام للفرنسي جان- لوك غودار، وإن كانت حياتهم مختلفة عن مسارات شخصياته".

إنها الصور، الأكثر هشاشة، بعد ناسها وملتقطيها، تقضي عليها نار الحروب فتفنى أزمنتها الجميلة وحكاياتها السعيدة. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها