الجمعة 2017/04/28

آخر تحديث: 11:04 (بيروت)

بوتوسي: غاليانو وسياحة التحديق في الموت

الجمعة 2017/04/28
بوتوسي: غاليانو وسياحة التحديق في الموت
مدينة الفضة والموت
increase حجم الخط decrease
على ارتفاع يتجاوز 4500 متر فوق سطح البحر، في مدينة بوتوسي البوليفية، أصابني صداع شديد الى جانب صعوبة في التنفس، (كان الأمر) مجرد بداية أعراض غثيان الإرتفاعات، الذي ما لبث أن جعلني طريح الفراش معظم وقت إقامتي في هذه المدينة، التي قد صادفتها للمرة الأولى كغيري من قراء العربية الذين سمعوا بها، في كتاب "الشرايين المفتوحة لأميركا اللاتينية"، تدين بنصيب غير قليل من سمعتها إلى السيرة المأساوية التي خطها لها الكاتب الأوروغواني، إدوارد غاليانو.

لكن"السقوط العظيم" للمدينة، الذي يرويه غاليانو، عن كونها واحدة من أكبر مدن العالم سكاناً وثراءً، حيث كان عدد قاطنيها ضعف سكان العاصمة الأمبريالية مدريد نفسها في مطلع القرن السابع عشر، إلى تحولها إلى بلدة صغيرة شديدة البؤس في نهاية القرن، لم يجد له مكاناً في كتاب "ثروة الأمم". فآدم سميث في احتفائه بالمدينة ومناجم فضتها، التي غيرت شكل العالم، وجعلتها حينها العاصمة الأولى للرأسمالية، سقط منه سهواً ذكر الملايين من الرجال الذين ابتلعتهم مناجمها.

"يمكن أن تبني جسراً من الفضة ليربط بين بوتوسي ومدريد مما استخرج من المناجم هنا، وجسراً آخر للرجوع مصنوعاً من عظام من ماتوا في استخراجها"، يستشهد غاليانو بأحد سكان المدينة، ليذكرنا بمصائر 8 ملايين من عمال المناجم، من السكان الأصليين، الذين فرض عليهم الموت تحت نظام إسباني للسخرة الإجبارية، جنباً إلى جنب مع العبيد المجلوبين من أفريقيا.

"حتى البغال لم تكن تحتمل قسوة العمل هنا، كان نصف البغال العاملة هنا ينفق خلال أسبوعين على الأكثر"، هكذا شرح لنا المرشد السياحي في متحف دار صك العملة في المدينة، ثمن تأسيس نظام التبادل النقدي الذي احتفى به كتاب "ثروة الأمم"، والذي أزدهر بفعل فضة المدينة، وموّل توسع الإمبراطورية الإسبانية وتجارتها خلال القرن السابع عشر.

في المتحف ذاته، كانت ست لوحات ضخمة، تعود إلى نهاية القرن الثامن عشر، تحتفي بالإنتصارات العسكرية الإسبانية في أوروبا، ومن بينها لوحتان لحروب "الإسترداد"، والتي يظهر فيها الجنود حاملين رايات الصليب، يدفعون المقاتلين الإندلسيين في ملابسهم العربية المخضبة بالدماء ورايات الهلال المنكسة إلى الغرق في البحر. تروي المدينة أكثر من مذبحتها الطويلة، فمستعمروها حملوا معهم رواية تأسيسية لعالمهم، الذي بدأ في الظهور على دماء مذبحة أسبق، لتطهير الوطن الأم المستعاد.

لا ينجح بهاء مباني وسط المدينة وكنائسها، المحتفظة ببعض من بذخ الماضي، في اخفاء بؤسها. فالـ"غرنيغوز" (صيغة تحقيرية تستخدم في إسبانية أميركا اللاتينية لوصف السائحين الأميركيين)، في بحثهم الدؤوب عن الإثارة منخفضة الكلفة، لا يفوتون فرصة معاينة الموت وجهاً لوجه. تنظم شركات السياحة المحلية جولات في المناجم المحيطة بالمدينة، لمشاهدة عمالها الذين لم يعودوا يبحثون عن الفضة بل القصدير المطلوب لصناعة العبوات المعدنية.

هجرت شركة التنقيب العالمية وبعدها الشركة الحكومية البوليفية مناجم بوتوسي، بعدما أصبحت عملية الإستخراج غير مجدية اقتصادياً، وبقى حوالي 15000 من سكان المدينة وبعضهم من القصر، يعملون في أنفاق الجبل الذي تداعت قمته بالفعل، بوسائل شديدة البدائية ومن دون أي احتياطات للأمان. تتقاطر مجموعات السائحين الغربيين يومياً، بخوذاتهم وكماماتهم وملابسهم الواقية، لمشاهدة عمليات الاستخراج بين الأنفاق، والاستماع إلى سعال العمال الذين تقتلهم الأمراض الصدرية في سن الأربعين، إذا حالفهم الحظ ولم يقتلهم انهيار صغير وغير متوقع لأحد الأنفاق قبل ذلك. يترك السائحون هدية لعمال المنجم، غالباً بعض السجائر والكحول وأوراق الكوكا، قبل أن يغادروا استعداداً لمغامرتهم الصغيرة اللاحقة، والتي ربما ستكون رقصة طقسية سيؤديها بعض "السكان الأصليين" أمام الفوج السياحي في إحدى الغابات القريبة أو أي شيء من هذا القبيل.

في يومي الثالث في المدينة، فقدت أي أمل في أن يعتاد جسدي على نقص الأوكسجين والضغط المنخفض، بعدما اشتدت أعراض غثيان الارتفاع، وأضحت غير محتملة. وفي رحلة الهبوط إلى المدينة الأقرب التي لا يتجاوز ارتفاعها 2500 متر، كانت تتردد في رأسي جملة أحد عمال المناجم، في برنامج وثائقي عن بوتوسي عرضته قناة "الجزيرة" قبل سنوات: "الكثير من العمال هنا، مات آباؤهم من الأمراض الصدرية، وانضموا بعدهم للعمل هنا في سن مبكر. توجد هنا ثقافة للموت".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها