الأحد 2017/04/23

آخر تحديث: 12:45 (بيروت)

من يملك صورة المسيح؟

الأحد 2017/04/23
من يملك صورة المسيح؟
"آلام المسيح" لميل غيبسون
increase حجم الخط decrease
أنتجت هيئة الإذاعة البريطانيّة "بي بي سي" برنامجا وثائقياً بعنوان "الأيام الأخيرة للسيّد المسيح" في أربع حلقات وبثته القناة الخامسة للتلفزيون البريطاني خلال عيد الفصح، وأثار جدلاً واسعاً في بريطانيا. واتهم بعض رجال الدين "بي بي سي" بتضليل المشاهدين برواية الكتاب المقدّس عن حياة المسيح وصلبه، بينما رحب به بعض المؤرخين، معتبرين أن حقائق التاريخ ينبغي أن تشكِل ركيزة في فهمٍ أفضل لسيرة المسيح. (لا نريد الدخول في تفاصيل ما يقدمه الفيلم، ليس هدفنا الآن).

قبل "بي بي سي"، عرضت "ام تي في" اللبنانية فيلماً عن المسيح، شاركت في إنتاجه شبكة RAI الإيطالية وFrance 2 الفرنسية ومحطات أوروبية أخرى ذات توجه مسيحي كاثوليكي. واعترض بعض المؤمنين اللبنانيين (المسيحيين) معتبرين ان صورة المسيح تشوّهت في الفيلم من خلال اظهاره "انه شاب مستهتر" واعتبره بعض ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي "يحتوي على مغالطات دينية وتحريف للانجيل"... والحال ان الصراع على سيرة المسيح وصورته لا ينتهي... يتبين من خلال الاعتراض على الفيلمين كأن هناك صورة نمطية للمسيح في أذهان بعضهم لا ينبغي ان تتغير، الصورة النمطية آتية من سياق اجتماعي وليس حقائق تاريخية، صورة يغلب عليها البعد الايماني المثالي أكثر من البعد الحسي البشري.

وفي الواقع لكل شخص مسيحه، من يتأمل أيقونات المسيح لدى الشعوب، يدرك أن المسيح بُعد رمزي قبل أن يكون حقيقة تاريخية، فكل جماعة ترسم أيقونة المسيح كما بيئتها ولونها، في اليابان يبدو المسيح يابانيا وفي افريقيا افريقياً، وفي الصين صينياً، وفي الشرق عربياً، هو أشقر وأسمر وأصفر وأسود... لكن في الوقت نفسه، سيرة المسيح ما زالت مدار سجال، وبرغم تقلص حضور الكنيسة في اوروبا لا تزال بعض الكتب والأفلام تحدث سجالاً ورفضاً. قبل فيلم "بي بي سي" الذي يحاول أن يؤرخ، تجلت الأزمة في نظرة المتدينين إلى الروايات التي تتناول المسيح في المتخيل الأدبي. حين أصدر الكاتب اليوناني اليوناني نيكوس كازنتزاكيس كتابه "الإغواء الأخير للمسيح" العام 1951 اعتُبِرَ الأكثر إثارة للجدل، إلى درجة أن الكنيسة الكاثوليكية منعت الكتاب؛ كما عمد البابا آنذاك إلى إدراج كتابه ضمن لائحة الكتب الممنوعة في الفاتيكان العام 1954 والذي أثار الجدل ذاته بعدما قام المخرج مارتن سكورسيزي بإخراج هذا العمل العام 1988، وهاجمت مجموعة مسيحية متطرفة من الفرنسيين السينما التي تعرض الفيلم بزجاجات المولوتوف وأصيب ثلاثة عشر شخصاً (تبقى مهاجمة فيلم سكورسيزي بسيطة مقارنة بالفتوى الخمينية بإعدام سلمان رشدي على خلفية رواية "آيات شيطانية" التي صدرت في الفترة نفسها)..

صوّر سكورسيزي المسيح باعتباره بشراً يتزوج وتأتية مخيلات جنسية وهو معلق على الصليب، يعيش التردد والشك في الرسالة المسيحية... وحين أصدر البرتغالي جوزيه ساراماغو (1922-2010) روايته "الإنجيل بحسب يسوع المسيح" العام 1991، أثارت عاصفةً من الردود التي انهالت على الرواية وصاحبها. استنكرتها الكنيسة الكاثوليكيّة بشدّة واعتبرتها تجديفيّة، أمّا الحكومة البرتغاليّة فمارست الرقابة عليها، معتبرةً إيّاها "مهينةً بحقّ الكاثوليك". إثر هذه الحادثة، غادر ساراماغو البرتغال، إلى إحدى جُزُر الكاناري. كان للبرتغالي واقعة أخرى عندما آثار غضب الكنيسة الكاثوليكية العام 2009، بعدما كتب روايته "قابيل"، وجسدت الشر في التوراة، عندما تناول قصة قابيل قاتل آخيه هابيل، وخلال تقديمه للكتاب، أجّج ساراماغو الجدال واصفًا التوراة بأنها "كتيب للعادات والتقاليد السيئة"، حتى أن الكنيسة اعتبرته "أنه كاتب معاد للدين".

وإذا أردنا إجراء مقاربة للرقابة في أوروبا، يمكننا اعتبار الهجوم على ساراماغو وكازنتزاكيس وفيلم "بي بي سي" من فلول الماضي. يشير الكاتب ماريو إنفليزي في كتابه "الكتب الممنوعة" الى أنه منذ اختراع جوهان غوتنبرغ الطباعة بالحروف المتحركة في القرن الخامس عشر الميلادي (1452- 1456)، نجد بداية لسلطة رقابية حديدية من جانب الكنيسة، من خلال "محاكم التفتيش" بها، والتي أقامتها لمراقبة انتشار الكتب المنافية للآداب والتقاليد الكنسيَّة في كلٍّ من إيطاليا وإسبانيا والبرتغال، وفرنسا وألمانيا، ولم تَهدأ وطأة تلك الرقابة اللهمَّ إلا في أواخر القرن الثامن عشر، عندما بدأت الدولة تُنازع الكنيسة سلطتها الرُّوحية والزمانية.

وثمة كتاب بدأت الكنيسة الكاثوليكية بوضعه قبل أكثر من عشرة قرون، وهو ما يعرف بقائمة المؤلفات الممنوعة (Index Librorum Prohibitorum). تلك القائمة ضمت مؤلفات عائدة لكبار الكتاب والفلاسفة والمبدعين، بدءاً من كاتب المسرحيات الأثيني أرصطفنس وشاعر روما جوفينال، وانتهاءً بالروائي ألبرتو مورافيا. أوقف البابا بولس السادس العمل بالقائمة العام 1966 فقط، لكن الكاردينال جوزف ريتسِنغر، الذي أضحى البابا بينيدكت 16، أعلن أن قوتها الأخلاقية باقية. وحين لا تعارض الكنيسة يأتي غيرها ليعارض كما حصل في فيلم "آلام المسيح" لميل غيبسون، اذ سعى بعض اليهود لمنع عرض الفيلم باعتباره معادياً للسامية ورفضت المحكمة الدعوى، وجاء في قرار المحكمة ان "الفيلم المعني وهو معالجة واقعية للغاية للساعات الأخيرة من حياة المسيح لا يمكن اعتباره تحريضاً على الكراهية والعنف ضد اليهود أو تحدياً لكرامتهم وأمنهم"...

في لبنان تبدو الأمور أكثر تعقيداً، الرقابة الدينية الطائفية حاضرة بقوة "قابضينها جد". قبل سنوات اعترض "المركز الكاثوليكي للإعلام"، على رواية "شيفرة دافنتشي" لدان براون واعتبرها مخالفة للعقيدة المسيحية، واستنتج الشاعر عبده وازن أن "الكنيسة في الغرب تبدو اكثر تسامحاً من الكنائس في الشرق، وأن "الكنيسة في لبنان... تتوجس دوماً من أي عمل يناقش العقيدة وطبيعة المسيح وقضايا اخرى! وهي ايضا مثلها مثل المراجع الدينية الاخرى في لبنان التي لا تتحمل أي رأي يخالفها". وأثار كتاب "البحث عن يسوع" للمؤرخ كمال الصليبي بلبلة "مُنع.. لم يُمنعْ"، وهو طرح فيه نظرية جديدة أيضاً حول شخوص المسيح، وحول مصائر الأصول وتطوراتها التأويلية والتاريخية. وإذ كان الصليبي يقدم التاريخ كوجهة نظر او رأي او حتى حكاية، لكنه حين أصدر كتابه لوحظ أنه لم يهاجَم من حراس الكنيسة فحسب، والذين اعتبروا كتابه بمثابة "الكتاب الأسود"، بل من بعض "العلمانيين" و"اليساريين" الذي خصصوا صفحات لمهاجمته، بدوا أكثر تديناً وعصبية من حراس الكنيسة...

وحين عرض في محطتي تلفزيون "إن بي إن" و"المنار"، المسلسل الايراني "المسيح" اثار جدلاً وأزمة "عيش مشترك". وبعد تدخلات سياسية، أوقف بث المسلسل. أشار بشارة الراعي (وكان حينها مطراناً) إلى "أن واضعي الفيلم لم يستمدوا معلوماتهم من الأناجيل الأربعة التي تعترف بها الكنيسة (متى ومرقس ولوقا ويوحنا) بل اعتمدوا إنجيل برنابا المنحول الذي لم تعترف به الكنيسة يوماً، لذلك جاءت أحداث الفيلم محورة ومنتقصة ومجتزأة، الأمر الذي يسبب عدم احترام وقلة قيمة للوحي الإلهي ولشخص المسيح وللكنيسة وللمسيحية. ونحن أبدينا ملاحظاتنا وسررنا لأنهم أخذوها في الاعتبار. والآن ثمة مزايدات في الإعلام لسنا معها"...(أن تعرض المنار مسلسلاً عن المسيح، فهي تأخذه الى مكان آخر وصورة دينية اخرى، بغض النظر عن حرية التعبير)...

ويبدو المركز الكاثوليكي للاعلام على استعداد دائم للممارسة الرقابة، التي تتناول المسيح والكنيسة، فمرة يناشد رئيسه بمنع فيلم "الفاتح 1453.. الذي يصور الكنيسة كمكان للفجور والعربدة ويحتوي على كثير من المغالطات التاريخية والدينية"، ومرة يحذف الامن العام مقاطع من "تنورة ماكسي" بناء على طلبه. ويجاريه الفنان غسان الرحباني فهو علّق على منع فيلم jesus في "إم تي في"، بأن على كل فنان يريد تصوير المسيح بهذه الطريقة أن ينفذ الفيلم ويشاهده مع عائلته فقط، وقال: "أنا ضد الحرية الدينية"، مستهجناً التركيز على تجسيد "يسوع" في الأفلام كتسلية.

السؤال: من يملك الصورة الحقيقة للمسيح؟ من يحددها؟ هل لمتخيل الأدبي أم السينمائي أم التاريخي أم الحكاية أم؟ اسئلة كثيرة عن رمز له حكايات وتأويلات كثيرة، في عالم يضيع في تفسير نفسه فكيف في تفسير الرموز. على أن الرقابة المسيحية في لبنان تبدو هينة مقارنة بالطوائف الاخرى (الاسلامية)، فبعض الطوائف (الاسلامية) تفجر أزمة في الشارع ليس دفاعاً عن الرموز الدينية فحسب، بل دفاعاً عن الرموز السياسية، وتفجر أزمة بسبب مقال في جريدة أو سكيتش تلفزيوني أو عبارة فايسبوكية او تقليد لهجة...

الرقابة المسيحية هينة حين نجد بعض "العلماء" يمنعون اعلانات كوكا كولا في طرابلس بحجة أنها منافية للأخلاق، وبعض المناصرين لحزب الله ينزعجون من رقصة الدبكة في النبطية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها