الأحد 2017/02/05

آخر تحديث: 11:10 (بيروت)

"هنا الوردة" لأمجد ناصر: "يونس" الذي لا "سانشو" له

الأحد 2017/02/05
"هنا الوردة" لأمجد ناصر: "يونس" الذي لا "سانشو" له
"أردتُ أن أضع خبرة واقعية تشبه الفانتازيا على محكّ القراءة والتأمل"
increase حجم الخط decrease
في تفسيره لعنوان روايته الجديدة "هنا الوردة"، يقول الشاعر والروائي الأردني أمجد ناصر: "عنوان الرواية الحاليّ واحد من عناوين عديدة اقترحتها عليَّ دار الآداب، فاخترت هذا العنوان، وجدته جذاباً أكثر من سواه. هناك ما يحيل إلى العنوان في الرواية، وهي عبارة ماركس الحرفية: هنا الوردة فلنرقص هنا، التي يضعها في سياق صرخة الحياة بأنْ "لا عودة إلى الماضي"، وهي من كتابه الشهير "الثامن عشر من بروميير"... وجدت في هذه المقولة شيئاً شعريّاً وحُلميّاً في آن: فالحياة هي نفسها التي تصرخ، أمام الوضع الذي يخرج، أو يتخلَّق من رحم المراوحة والتكرار قائلة: هنا الوردة".

وإذا بحثنا عن مسار العنوان وقاربناه، لوجدناه في أكثر من اتجاه وأكثر من استعمال وتأويل وتفسير، إذ وردت العبارة في العديد من النصوص الأدبية العربية وربما الأجنبية، واختيرت عنواناً لمجموعة قصصية وأخرى شعرية، واستوحاها أكثر من معلق سياسي وأدبي، وكُتبت في أكثر من سياق. وأبعد من ذلك، فهي في دهاليز الانترنت، ملتبسة النسب بين من يقول إنها لكارل ماركس ومن يضعها في صلب أفكار هيغل. فإذا كانت العبارة واردة في كتاب "الثامن عشر من بروميير"، فإن الحكاية تقول إنه في أحد أعماله الفلسفية، استوحى هيغل من الميثولوجيا الإغريقية حكاية ذلك الرجل الذي كان يتباهى أمام أصحابه بأنه كان مرة في "رودس"، الجزيرة اليونانية التي يقال إن معناها الوردة، وإنه قفز من أعلى صخرة هناك. والأصحاب بين مصدِّق ومكذِّب لزعم الرجل، أخذوه ذات مرة إلى الجزيرة المذكورة، وهناك طلبوا منه القفز من الصخرة، قائلين له: "هنا رودس.. فاقفز هنا"، ليتضح زيف الزعم، فالرجل لم يسبق له أن قفز من الصخرة. وذهب هذا القول مثلاً. أما هيغل فقد حوّر العبارة بعض الشيء، مستفيداً من معنى اسم "رودس" ليطلق تحديه أمام دعاة المعرفة، أو أدعيائها بتعبير أدق، داعياً إياهم للمبارزة. "هنا الوردة، فلترقص هنا!" – وتعديل القول السابق (Poooç – رودوس – باليونانية اسم الجزيرة المعروفة، وتعني كذلك "الوردة") أورده هيغل في مقدمة كتابه "فلسفة الحق".

وإذا ما استطردنا في تأويل الوردة أو الزهرة في سياقات أخرى، فهي لها أقنعتها السياسية والمثالية والأدبية. استُعملت في التظاهرات والاحتجاجات السملية وفي الشعر والنثر، وأيضاً في "الثورات". وحين أطلق الزعيم الصيني ماو تسي تونغ ما سمّي "الثورة الثقافية" في الستينيات، كان شعاره "دع مئة زهرة تتفتح ومئة مدرسة تتبارى"، محوّلاً الصين إلى ساحة صراع عقائدي لا حدود له. وفي كتابه "حاشية على اسم الوردة"، أشار الايطالي امبرتو أيكو إلى إعجابه بعنوان روايته الشهيرة (اسم الوردة)، لأن للوردة-في نظره- دلالات ومعاني مختلفة في التاريخ، لدرجة غدا معها الاسم من دون أي معنى واضح. فإذا كان العنوان مستوحى بشكل مباشر من بيت شعري يعود للفترة الزمنية التي تجري فيها الأحداث في الرواية، فالقصيدة لراهب بنديكيتي من القرن الثاني عشر، اسمه برنارد المورلوي. "كانت الوردة اسماً، ونحن لا نمسك إلا الأسماء".. بهذا السطر من البيت الشعري للراهب المذكور ختم إيكو روايته، ربما ليشير إلى الجمال الموجود في ماضي القرون الوسطى.

أما المغزى الذي يفسره أمجد ناصر من عنوانه فهو أن الحياة تتخلق "من رحم المراوحة والتكرار". وتنطوي روايته الجديدة على لغة شعرية، تحكي سيرة "يونس"، الخطاط الذي يدخل في دوامة أحداث متلاحقة تقلب حياته وتغربه عن بلاده التي كان يطمح إلى تغيير واقعها. يعتقد يونس، أن أحلامه حقائق، يتوهّم، يمشي نحو هدفه الكبير، جارّاً معه سائر شخصيات الرواية التي ترى حقيقته، بينما يبقى هو الوحيد الذي لا يرى ذاته. "يفكر بشيء من اختلاط ملتبس، ومتبادل الأدوار، بين الشعرية والمادية"، كان في "ذروة انصهاره في الفكر الذي سيغير العالم، الذي يتصادم، بلا هوادة، بلا رأفة، بكل ما يؤمن به محيطه، تقريباً. الأصول والأنساب والعادات التراث المكتوب بماء الذهب". يونس، الشاب العشريني المتوهم والمنصرف الى الشعر حالمًا، حبيس غرفة في فندق "في مدينة لا يعرف فيها أحداً"، يحيلنا الى الشاعر الفرنسي رامبو ومساره وتقلباته وتوهماته، وهو كان يرفع شعار "تغيير الحياة"(على نسق "تغيير العالم" الماركسي)، ولديه يبدو فعل الكتابة وكأنه يهدف الى تغيير نظام الواقع وليس فقط لكتابة قصيدة شعرية. ويونس الخطاط، غالباً ما يجد نفسه "متقمصاً شخصيات الروايات والقصص التي يقرأها، وهو سليل عائلة توارثت حِرفة الخطّ أبّاً عن جدّ. وانطلاقاً من هذه النقطة، تظهر الشخصيات (الثانوية) المتصلة بالشخصية الرئيسة والمركزية (يونس)، فنتعرّف الى رسول "التنظيم" مروان، الذي تأخّر في الوصول، و"رلى" حبيبته الأولى. ثمّ تتوالى الشخصيات، مثل الأمين العام، والرفيق هاني، وصديقه ابراهيم الحنّاوي الذي يشاركه الإعجاب بشعراء وأذواق شعرية معينة، وغيرهم.

ترى شخصيات الرواية، حقيقة يونس، بينما هو الوحيد الذي لا يرى ذاته، لأنه ببساطة "دون كيشوت العربي". وإن كان لدون كيشوت الإسباني، تابعه الأمين سانشو، الذي ينبّهه إلى حقيقة ما يجري في الواقع، فمن ينبّه يونس؟ "هناك من يقدّم نفسه في مستهلّ الرواية كأنّه الكاتب، بيد أنّنا سنعرف، من دون إبطاء، أنّه ليس إيّاه، وحفلت الرواية بإيحاءات عن ملامح مشتركة بين "دون كيشوت" الضفة الشمالية ونظيره في الجهة الأخرى"، يقول أمجد ناصر، "أردت أن أضع خبرة واقعية تشبه الفانتازيا على محكّ القراءة والتأمل، وربما الاستمتاع بقدر ما يسمح به الشكل الذي لم يكن تقليدياً ولا حكائياً صرفاً، وإن كان ينطوي على حبكة داخلية". يونس: "كان يحمل نسخة مختصرة من كتاب حكائيٍّ مترجمٍ يرجع إلى القرن السادس عشر، ورغم اختصاره فهو يقع في نحو 400 صفحة. إنه يحبُّ هذا الكتاب الذي يسخر فيه كاتبه من قصص الفروسية والفرسان الشائعة في زمانه، من خلال رحلة مضحكة مبكية، فرحة وحزينة، لبطل كتابه، الفارس الذي لا يشبه الفرسان في شيء سوى برمحه الهزيل مثله، وبخادمه، الذي يبدو أكثر معرفة بأمور الحياة من سيِّدٍ يظنُّ طواحين الهواء جيشاً من المَرَدة"... "لم ير نفسه في وضع ذلك البطل، أبطال الواقع هم الذين يفتنونه، لا أبطال الاساطير"... و"تغيَّرت قراءات يونس أكثر من مرة، بحسب انشغالاته، فيمكنها أن تكون فلسفية ونقدية، سوسيولوجية بل واقتصادية، أدبية وشعرية بالطبع، قراءات نطاطة، لكنَّ كل ذلك لم يمنعه من مواصلة شغفه بقراءة قصص المغامرات، ولو من وراء ظهر رفاقه المنكبّين على أدبيات التثقيف الحزبي الجافّة، تلك الملخَّصات الكليَّة التي يراد لها أن تشفي العالم من آلامه الأرضية ونواحه على كسرة خبز وشربة ماء". ليخلص إلى أنه: "إن كان ذلك تعبيراً عن التناقض بين الفكرة والشغف، بين ما سمَّاه كاتبٌ "قراءات النهار" و"قراءات الليل"، ففي عروق كلِّ امرىء يسري، لا ريب، شيء من هذا الإكسير الانفصامي، يكون المرء حداثيّاً في الشعر ويحبُّ الروايات التقليدية، أو تقدميّاً ويبقي كوَّة صغيرة تطلُّ على العالم الرجعي الأليف، ملحداً ويشهق يا الله عندما تصيبه مصيبة، فناناً تشكيليّاً تجريبيّاً ولا تطرب أذنه إلا إلى مواويل فولكلورية، وهكذا". وكان قد قرأ نصف الكتاب خلال الرحلة الطويلة، وقسَّطَ النصف الثاني على يومين، تاركاً أفكاره تسرح مع مغامرات الفارس الهزيل وخادمه الذي يسميه "الفارس حزين الطلعة" ذلك لأنّه لم ير شخصاً مثله من قبل بين الناس، أو ربما، لأنَّ القتال هدَّه وأضناه، أو لأنه فقد أسنانه! يضحك يونس. يضحك أمام الساعة التي يزحف عقرباها ببطءٍ ولؤمٍ على سطح الميناء. وقد كظم العديد من ضحكاتٍ مماثلة وهو محشور في الزاوية اليمنى في المقعد الخلفي في سيارةٍ خاضت بركّابها أمواج سراب الصحراء،(..) كلما فكَّر يونس في حكاية فَقْدِ البطل أسنانه، التي تسبَّبت في منظره الحزين، الوصف الذي أعجب البطل نفسه، ضحك من كل قلبه، وهذا ساعده في تمرير وقت لا يعرف ما ينتظره في غضونه، ولا في نهايته ولا ما يترتب عليه. وفي الخاتمة خرج شخص من جسد يونس له ملامحه وانفصل عنه. رآه، "رغم العتمة، وهو يطلع منه، وينسلخ عنه، بلا صوت، بلا ألم، ويترجل من السيارة التي ستأخذه ورفاقه بعيداً، عبر تلك الارض الوعرة...".

في رواية أمجد ناصر، مقاطع يمكن ان تكون قصائد وأجزاء من ديوان، ونبرة شعرية في طرق كتابة العبارات. لا يكتب صاحب "الحياة كسرد متقطع"، رواية مَكانية، فالمكان بلا ملامح او "صفات" بحسب التعبير البروستي. ولا يكتب رواية حياتية، بقدر ما يكتب رواية مجازية استعارية. ولا يكتب سيرة ذاتية، وإن كانت ملامح من شخصيته حاضرة. هي كتابة حرة ورواية سردية يتمناها المرء نشيداً ملحمياً يعرّي الخواء الايديولوج. وربما يكون أبلغ وصف للرواية، ما كتبه الشاعر عيسى مخلوف في "فايسبوك"، نقلاً عن الأديب الفرنسي كريستيان بوبان، الذي يقول إنّنا نحتاج ساعتين أو ثلاث لقراءة رواية، لكن تلزمنا حياة بأكملها لقراءة قصيدة. الرواية التي يكتبها الشعراء، أو الروائيّون أصحاب الرؤية العميقة، قد تكون قصيدة من نوع آخر. هذا ما شعرتُ به وأنا أقرأ رواية "هنا الوردة" لأمجد ناصر. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها