الأحد 2017/02/19

آخر تحديث: 12:06 (بيروت)

"مضحك بالفارسية" لفيروزة دوماس.. كأنه البكاء

الأحد 2017/02/19
"مضحك بالفارسية" لفيروزة دوماس.. كأنه البكاء
لا يخلو سرد فيروزة من جلد للذات عبر السخرية منها
increase حجم الخط decrease
يتداخل الشخصي بالعام في فضاء المهجر والاغتراب لدى الإيرانية الأميركية فيروزة دوماس في مذكراتها "مضحك بالفارسية" التي تسترجع فيها بعض المحطّات والمفارقات التي مرّت بها في رحلتها من إيران ما قبل ما سمّي بالثورة الإسلاميّة وأثناء الثورة المزعومة وما بعدها، وكيف انعكست بطريقة تراجيدية على حياتها وحياة أسرتها في أمريكا التي وصفت من قبل زعماء ثورة الإيرانيّة؛ تجّار الدين بـ"الشيطان الأكبر". 

فيروزة التي تستعيد جانباً من معاناتها من تفاصيل صغيرة أثناء انتقالها وهي طفلة مع والديها إلى أميركا، وكيف أو والدها كاظم الذي ولد ونشأ في الأهواز، وكان مهندساً في شركة النفط، انتدب ليكون مستشاراً لشركة أميركية لعامين، كان قد ظل مهجوساً ومهووساً بأميركا التي كان قد درس في سنواته الجامعية، كما كانت صدمة الانتقال بالنسبة إليها وإلى أمّها قوية وباعثة على الاشتغال على الذات ومحاولة تفهّم المحيط الجديد.

الكاتبة التي اقترنت بزوج فرنسيّ، سعت إلى المحافظة على استقلاليتها في حياتها، تكتب أنها اختارت درباً مهنيّاً مختلفاً عن ذاك الدرب الذي حرص والدها أن يختاره لها ولأقاربها، وهو درب الهندسة، وكأنّه كان يتوجّب على الأبناء أن يعيدوا سير الآباء أو يكونوا نسخاً جديدة عنهم، يرثون دراستهم وأعمالهم وشخصياتهم واهتماماتهم، في حين أنها سلكت درب الكتابة والأدب بعد أن جربت عدداً من الأعمال التي لم تجد نفسها موفقة فيها.

صنعة الحكواتية ناسبت شخصيتها وحكاياتها، ولاسيما أنها مرت بتجارب كثيرة مختلفة وشهدت حياتها وحياة أسرتها انعطافات وتحوّلات إثر انتقالها للعيش في بلاد جديدة، وتغير الظروف فيما بعد في بلدها أيضاً، وتحوّل الناس من الجهل ببلادها إلى النقمة عليها جرّاء السياسات التي اتبعتها السلطة الجديدة الاستعدائية.

يحتل والدها حيزاً كبيراً في يومياتها ومذكراتها، يكون بطل حكاياتها التراجيدي، تستعيد كثيراً من المواقف المحرجة التي تسبب بوضعهم فيها، وعناده في التشبث برأيه وأنه يؤدي عملاً مميزاً حين يقوم بذلك، من دون أن يدري أنه يكون مثيراً للضحك من جهة، والأسى والإشفاق من جهة ثانية.

تشير إلى تأثير الاسم عليها في حياتها الجديدة في أميركا، وكيف كانت تضطرّ إلى التواري أحياناً خلف غرابة الاسم، ولا تستطيع الإفلات من أسئلة الفضوليين عن خلفيات الاسم وسحر المكان البعيد الذي قدمت منه، كما تضطر لاختلاق حكايات غرائبية لإشباع فضول بعضهم، وإضفاء مزيد من الغرابة على بلدها الذي كان مجهولاً لمعظم من يستفسر منها.

تقول إنهم كانوا يعرفون، كمهاجرين، أن الهجرة إلى أميركا ستكون حافلة بالتحديات، غير أن أحداً منهم لم يتوقع أن تكون أسماؤهم عقبة لهم. تقول إن اسم فيروزة الذي اختارته أمها لها يعني التركواز بالفارسية، أما في أمريكا فكان يعني لها: "غير قابل للنطق، أو أنا لن أتحدث إليك لأنني قد لا أحفظ اسمك ولا أريد أن أضطر لسؤالك عنه مرة تلو أخرى لأنك ستظنينني غبياً أو قد تغضبين أو شيء من هذا القبيل".

تلجأ فيرزوة في مرحلة من مراحل حياتها إلى اسم آخر تختفي خلفه، تختار اسم جولي، تكون تلك محاولتها للتأمرك والتخفف من عبء الأسئلة التي تتهاطل عليها حين سماع الآخرين اسمها الغريب، ولكنها تندم بعد ذلك لأنها تشعر بانشطار في شخصيتها وانقاسم في داخلها، وبخاصة في المواقف التي يجتمع فيها أشخاص يعرفونها باسمها السابق مع آخرين تعرفوا إليها باسمها الجديد، وتكون متشظية بين معارفها واسميها اللذين يتحولان معاً إلى عبء مضاعف عليها. 
كان قرار تغييرها اسمها مؤثراً عليها، أصبح الناس يتذكرون اسمها، وكانت الأمور تجري على ما يرام إلى أن قامت "الثورة" فوجدت نفسها محاطة بحزمة جديدة من المشاكل، ولأنها تتحدث الإنكليزية بلا لكنة وكان اسمها الجديد جولي ظن الناس أنها أميركية، وهذا يعني أنهم سيطلعونها على مشاعرهم الحقيقية تجاه من يصفونهم بالإيرانيين الحمقى. تقول بأسى إن الأمر كان أشبه بارتداء نظارات أشعة إكس التي تجعلك ترى الناس عراة، إلا أن ما رأته كان أكثر قبحاً من ملابس الناس الداخلية، كشف لها أولئك الناس أنهم لن يقوموا بدعوتها أبداً إلى منازلهم لو عرفوا أن اسمها فيروزة. هذا ما أشعرها بأنّها مزيّفة.

تكتب فيروزة عن بعض المواقف المحرجة التي صادفتها أثناء بداياتها في المدرسة، وكيف أن اليوم الأول خلف انطباعاً مأساوياً لديها، عندما صاحبتها أمها التي كانت تجهل الإنكليزية تماماً إلى المدرسة، وخيبتها حين سألتها المعلمة عن موقع بلدها على الخريطة، وتخبطها في البحث عن الموقع وحيرتها البادية التي تحولت إلى مادة للسخرية، ومن ثم تدارك المعلمة للموقف والإشارة إلى نقطة بعيدة للتلاميذ لتحديد موقع البلد الذي جاءت منه زميلتهم الجديدة التي ظلّ اسمها ثقيلاً ومحيراً لهم.

تتذكر بألم وحسرة كيف أو والدها فقد عمله عقب الانقلاب الذي يقع في بلدها، والإطاحة بالشاه، ومن ثم يفقد جزءاً كبيراً من أمواله لتدني قيمتها الفعلية، واضطر إلى بيع مقتنياته وبيته ليبني حياته الجديدة في أمريكا بعد قطعه الأمل من العودة لبلده الذي احتل السلطة فيه أشخاص يتعاملون بمنطق الحقد والعداء مع الآخرين، وبعد ذلك حاول البدء من جديد بترميم حياته المتصدعة في أميركا.

تحكي عن لقاء والدها بالعالم ألبرت آينشتاين وزيارته له مع مدرسيه، وإسهابه في الحديث عن موضوع لم يكن ليلفت آينشتاين بشكل من الأشكال، وعدم تقديره لجلوسه في حضرة عالم كبير، وإصراره على الثرثرة عن تفاصيل بعيدة عن اهتمام الرجل الذي كان يعرف عن إيران شهرتها بالسجاد الفارسي والقطط الفارسية، وذلك ما كان بعيداً عن اهتمام والدها الذي كان يجتهد في مجاله فقط.

تكتب فيروزة عن حلمها ووهمها معاً، تقول إن أميركا كانت بالنسبة إليها مكاناً يمكن لأي شخص فيه أن يصبح مهماً بغض النظر عن مدى وضاعة خلفيته، فقد كانت أرضاً طيبة منظمة تكثر فيها الحمامات النظيفة وبلاداً يخضع فيها الجميع لقوانين المرور وتقفز فيها الحيتان عبر الحلقات. لقد كانت أرض الميعاد.

لا يخلو سرد فيروزة من جلد للذات عبر إثارة السخرية منها، والإشارة إلى مواقف خلقت شعوراً بالأسى وخلّفت انطباعات بالجهل والتخلف لدى الآخرين، وواقع أن الغريب في البلد الجديد يكون جاهلاً بنفسه وتاريخه وواقعه أحياناً، وتكون محاولات التأقلم والاندماج التالية بواعث جديدة على الأسى والسخرية معاً.

• الكتاب من ترجمة بثينة الإبراهيم، منشورات مسارات، الكويت 2016. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها