الأربعاء 2017/02/15

آخر تحديث: 12:54 (بيروت)

"متحف البراءة ": لعبة السرد.. لا الحب الاسطنبولي

الأربعاء 2017/02/15
increase حجم الخط decrease
لا يمكن الكتابة عن عمل لكاتب حاز جائزة نوبل إلا بكل تقدير، حتى إذا أغضبك إسهابه ومطّه للحكاية، وحتى إذا تسبب كتابه الكبير في تعطيل قراءة كتب أخرى تنتظر دورها، هذا ما يمكن أن نصف به أورهان باموق، الروائي الذي صدرت مجموعة من أعماله مؤخرا في ترجمات جديدة لأول مرة في القاهرة، منها ذلك العمل الذي استغرقت ما يربو عن الشهر في قراءته، وهو "متحف البراءة".

تنطلق الرواية البالغ عدد صفحاتها 610 صفحة، من السبعينات، يحكي باموق على لسان بطله "كمال" مبتدئاً روايته بمشهد حب حميمي يوم الاثنين 26 أيار/مايو1975، وتمضي هذه الرواية في زمن أحداث يبلغ 9 سنوات، متقصياً خلال الحكي وقائع قصة العشق الملتهبة التي تربط بين بطلي الرواية "كمال" و"فسون". يشعر القارئ للوهلة الأولى أنه بمثابة قصة مكرورة، عن علاقة حب، وغرام، تجري أحداثها في إسطنبول. لكن هذا مجرد خيط، يفتله أورهان باموق بمهارة. فنحن بصدد ما يشبه الملحمة الروائية، التي يروي عبرها باموق سيرة قصة حب، غير عادية، لأنها تنتهي بأن صاحبها يرغب في توثيقها في صنع متحف، من مقتنيات جمعها من أشياء لمستها حبيبته، أو استخدمتها، أو سجائر دخنتها، أو ملابس ارتدتها.

تبدأ أحداث "متحف البراءة" في العام 1975، حينما كان "كمال" وخطيبته "سيبل" يتجولان في شارع "دار الوالي" فيعجبان بحقيبة نسائية في فاترينة "بوتيك" تعمل فيه من ستكون حبيبته. يمضي "باموق" ببطله وسط سيرة مدينة "إسطنبول"، وعادات أهلها، البورجوازيين، الأغنياء، فيقول: كان بورجوازيو إسطنبول يقولون عن الفتيات اللواتي تلقين تعليماً ما في باريس: "درست في السوربون".

بعبارة كتلك، وغيرها من العبارات، يمنح باموق القارئ ما يعرف أنه يتشوق للإطلاع عليه، أسرار المدينة، وعادات أهلها، التفاصيل التي تمنح الأعمال الروائية لحماً ودماً. إنها أجواء عالم أورهان باموق، ولمحات من زمن السبعينات التي عاشتها تركيا. يكتشف "كمال"، في البوتيك، فسون، قريبته من بعيد، التي حاولت أن تنافس في مسابقة ملكة الجمال، والتي لها طموح أن تصبح فنانة سينمائية. وأم كمال، الذي ينتمي إلى عائلة ثرية، تقول له عن أسرة "فسون": كانوا فقراء جدا جدا، لكنهم ليسوا وحدهم يا بني، تركيا كانت كلها فقيرة.

يقترب "كمال" من "فسون"، ويقع في هواها، وفي فصل عنونه "ممارسة الحب في المكتب" يتحدث عن عادة الأثرياء في ممارسة الجنس مع سكرتيراتهم في مقار أعمالهم، وفي الشركة التي يمتلكها والده. بعدما أنهى دراسة إدارة الأعمال في الولايات المتحدة، أصبح كمال مديرا على رأس العاملين عند والده. يتطرق باموق لأول مرة، بعد 22 صفحة من الرواية، لأولى الموضوعات الشائكة في المجتمع التركي، البكارة، ويروي على لسان بطله: في تلك الأعوام، كانت النخبة من بنات العائلات الغنية المغرّبة، اللواتي رأين أوروبا، قد بدأن بكسر قدسية البكارة للمرة الأولى، ومضاجعة عشاقهن قبل الزواج، وكانت "سيبل" تفخر بأنها واحدة من هذه البنات الجريئات وقد ضاجعتني قبل أحد عشر شهراً، هذه فترة طويلة وأصبح علينا أن نتزوج.

لكن "كمال" ينجرف في علاقة حب واسعة وطويلة المدى مع قريبته "فسون"، على الرغم من حفلة خطوبته الهائلة في فندق "هيلتون" - إسطنبول. لا تستمر الخطبة مع "سيبل" التي تشعر بغرامه الهائل، فينفصلان. تمضي الرواية مع قصة الحب، ويمضي أورهان بامون موثقاً أهم مواضع المدينة، مطعم "فوآية" استراحة المسرح، الذي بحث بعد سنوات طويلة عن قائمة طعامه وأحد إعلاناته، وعلبة ثقابه ومناديله، ليضعها في متحف البراءة. يصفه "كمال" بأنه أحد مطاعم الطراز الأوروبي الأثير لدى عدد محدود من الأغنياء، الطبقة الراقية القاطنة في "بيه أغولو" و"شيشلي" و"نيشان طاش". إنها رواية المدينة، وسيرتها، لكنها ليست رواية سياسية. ليست الرواية التي ينتظرها البعض من الروائي التركي الحائز جائزة نوبل العام 2006، والتي يأملون فيها أن يحكي عن الانقلابات العسكرية التي شهدتها تركيا وظروف حظر التجوال وغيرها. صحيح أن باموق يعرج عليها، خفيفاً، بحكم تردد بطله "كمال" على منزل أسرة فسون لمدة 8 سنوات، قبل النهاية المأساوية التي يضعها لحبيبته، وتخللتها أحداث انقلاب العام 1980. لكن أورهان باموق لا يركز عليها إلا بإشارات خفيفة، فيتطرق إلى حدة الانقسام السياسي الذي تموج فيه تركيا قبلها، والأحداث الإرهابية التي تتخللها. هذا لا يشكل عموداً رئيساً للرواية، بل إن المناقشات التي يخوضها بطله "كمال" مع سائقه "تشتين" عن عيد الأضحى، وعمليات ذبح الأضاحي تبرز في فصل معنون "عيد الأضحى"، حيث ينتقد باموق تحول إسطنبول إلى مدينة يستمتع أهلها بإسالة دماء البهائم في طرقاتها، بل وجعل الأطفال يشاهدون عملية الذبح.

الرواية الهائلة التي نشرها أورهان باموق العام 2008، ثم جمع بالفعل مقتنيات "فسون" وصنع لها متحفاً حقيقياً في اسطنبول سمّاه "متحف البراءة" العام 2012، تكمن روحها في ذلك السؤال الذي يطرحه "كمال" على الروائي باموق في الصفحة 580 حينما تنتهي حياة "فسون" بشكل مفاجئ، ويبحث "كمال" عن روائي يكتب القصة، في شكل دليل متحف. انها طريقة السرد الجديدة التي عمد إليها باموق، رواية على شكل "بروشور متحف". تمضي الحكاية بين الفتارين، ويظهر الروائي بشخصيته، مواجها بطله، بل يتلقى تكليفاً منه، أن يكتب الحكاية. فيذهب الروائي في الرواية وقد صار أحد شخوصها، إلى الشخصيات الأخرى، ويجمع منهم ما يكمل نسيج القصة. يقول أورهان باموق في الرواية على لسان بطله في صفحة 580: وهكذا اتصلت بالسيد أورهان باموق، ليروي عن لساني وبموافقتي.

ليس هذا فحسب، بل إن الروائي في الرواية، راقص بطلته "فسون"، ليفاجأ "كمال" بأن باموق تعرف على "فسون" خلال الدقائق التي جمعتهما، ويحكي له أنه اقترب منها، وشعر بشرودها خلال حفلة خطوبته - خطوبة كمال وسيبل- وأنها كانت تبدو مهمومة. لم يكن الروائي يعرف آنذاك، بينما يراقص بطلة الرواية، أنها حزينة لأن كمال يخطب غيرها. إنها لعبة السرد، التي تجعلك تضحك من فرط إعجابك بها، وتسايرها مع ذلك.

"متحف البراءة" ليست رواية عن قصة حب، بل هي رواية عن سيرة مدينة، بكل تحولاتها. محاولة لاستعادتها، وتوثيقها، وبالتزامن مع ذلك، لعبة جديدة من ألعاب السرد الروائي.  


* صدرت الرواية في مصر عن "دار الشروق" بترجمة عبد القادر عبد اللي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها