الخميس 2017/11/02

آخر تحديث: 12:51 (بيروت)

في الذكرى الـ500 على "إنهائه التاريخ"..كيف نستعيد مارتن لوثر؟

الخميس 2017/11/02
في الذكرى الـ500 على "إنهائه التاريخ"..كيف نستعيد مارتن لوثر؟
التمَرَّد بدأ بمطبعة وألسِنة عامّية (لوحة "95 قضية" - فرديناند باولز)
increase حجم الخط decrease
قبل خمسة قرون، علّق القسّ مارتن لوثر، على باب كنيسة "فيتنبرغ" الألمانيّة، ورقة بعنوان "95 قضية ضد الباباوات"، فاندلع حدث غيّر مسارات في تاريخ البشريّة. وعَبَّر التمرّد على الباباوات عن رفض السطوة الرمزيّة للسلطة الدينيّة المُمَركزة مؤسّساتيّاً في نخبة كهنوتيّة تحتكر تفسير نصوص الدين ومعانيه وأبعاده، والحسم بشأن الإيمان وشروطه وصدقه، بل كأنها كانت تضع نفسها وسيطاً مُضْمَراً (بل معلناً أحياناً) بين الإلهي والبشر.

وانتشر التمرّد على سلطة الباباوات بسرعة مذهلة في الغرب، متوسّلاً مطبعة غوتنبرغ المتحركة الحديثة آنذاك، التي طبعت ورقة مارتن لوثر بكثافة، فانتشرت في أوروبا كالنار في الهشيم. وكذلك أنتجت المطبعة نسخاً باللغات "العاميّة" حينها، كالإنكليزيّة والفرنسيّة والألمانيّة، من الإنجيل المكتوب حصريّاً باللاتينيّة التي لم تكن تجيدها سوى نخبة ضئيلة من الإكليروس، فتحتكر تفسير نصوصه، ما أسبغ عليها هالة من الرفعة إلى ما فوق العادي للبشر، مع ما يرافق ذلك من سطوات رمزية ضارية.

سدّدت المطبعة ضربة قويّة أولى لسلطة الكهنوت المتعالي. وصار النص الديني شائعاً، وبات بإمكان كل فرد قراءته. وكذلك أنتجت مطبعة غوتنبرغ أيضاً كتاباً دينياً حمل عنواناً كثيف الدلالة: "صلوات الرجل العادي". وأعطى "الإصلاح" نموذجاً، بات كلاسيكيّاً، عن التفاعل بين وسائط الاعلام العام وتقنيّاته من جهة، والتغيير في أحوال الناس في الاجتماع والدين والثقافة والسياسة، من الجهة الأخرى.

كذلك أطلق "الإصلاح"، العنان، لصراعات وحروب دينيّة مزّقت أوروبا ومجتمعاتها، قبل أن تنتهي في ختام "حرب الثلاثين عاماً" مع "صلح وستفاليا" (1648) الشهير الذي وُلِدَت منه الدولة المدنية الحديثة. ويجدر التوقف قليلاً عند تلك المعاهدة التي بدا مثقفون عرب كثيرون وكأنهم تذكّروها فجأة غداة "الربيع العربي". ووفق وصف تاريخي معروف، استعاده هنري كيسنجر في كتابه "النظام العالمي"، لم تكن المعاهدة سوى صُلح بين البروتستانت والكاثوليك، ولم يخطر بفي بال المتفاوضين أنهم يصنعون دولة مدنيّة، بل أن الكثير من مراسلاتهم دار حول إعادة اللُّحمة إلى الدين المسيحي!

فصل دين الفرد عن الفضاء العام 
في المقابل، أفضى التفاوض في "وستفاليا" إلى حماية التديّن الفردي في الكيانات السياسيّة، مع التشديد على حق الفرد في اختيار ديانته ومعتقده، وإلزام الدولة حماية خياراته، ما فصل تديّن الفرد عن الفضاء العام للدولة والمجتمع والسياسة. وكذلك، تراضت الدول على مبدأ السيادة والاستقلال، فكان الصلح البروتستانتي- الكاثوليكي في وستفاليا، بداية أيضاً للنظام الدولي بمفهومه المعاصر.

وأعطى "الإصلاح" مثلاً على مدى التناقض والتعرّج في المسارات الصعبة للتاريخ. إذ كان الإصلاح اللوثري سبباً في دماء غزيرة، لكنه انتهى بولادة دولة تتبنّى الحق في حريّة الإيمان لكل فرد فيها، عبر فصل الفضاءين الديني والمدني، خصوصاً السياسي. وظهرت الدولة المدنيّة، فباتت ركناً في مشروع الحداثة الغربي. ودأب الغرب على نشرها خارج السياق الأوروبي والديانة المسيحيّة، ما أفضى إلى نتائج متضاربة وإشكاليّة تماماً. يصح القول أن الاصلاح البروتستانتي أفضى إلى الدولة ذات السيادة، لكن العمق الإنساني والمنظومات الفكرية والثقافية المرتبطة بها، لم يسهل نقلها خارج السياق الأوروبي. وزاد تعقيد الصورة أن دولة "وستفاليا" نُشِرَت مع مشاريع استعمارية وكولونياليّة وهيمنة ممتدة عبر الكرة الأرضيّة، فكانت أيضاً محلاً لصراعات لم تنتهِ حتى الآن.

وبمعنى ما، يبدو التديّن الفردي (والخروج من سطوة المؤسّساتيّة في الدين) سياقاً ثبتت صلاحيته، مع تحفّظات شتى، في صنع دولة مدنيّة تكون مؤسّساتها معنية برعاية حرية المعتقد والدين لكل فرد فيها، وهي دولة تستند أيضاً إلى التساوي في المواطنيّة بين أفرادها كافة. هل في ذلك رسالة عبر قرون خمسة من ورقة لوثر، إلى أنهار دماء "الربيع العربي"؟ ألم يكن فشل دولة الحداثة الوستفالية الشوهاء، سبباً في الانهيار الذي رافق ثورات "الربيع العربي"؟ الأرجح أن النقاش العربي لتلك الأمور لم يتعدَّ القشرة، سواء لدى النخب المثقفة بالأفكار الإنسانيّة، أو تلك المستندة إلى الخلفية الدينية، خصوصاً الاسلامويّة المعاصرة بمروحتها التي يقف الإرهاب صريحاً في مقلب منها، من دون أن يظهر إصلاح ديني فعلي في مقلبها الآخر!

كالفِن وكهانة العامة
استطراداً، كانت ورقة لوثر ضدّ الباباوت بداية "الإصلاح"، الذي لا تكتمل الصورة المتخيّلة لبدايته الاحتجاجيّة (هي معنى كلمة "بروتستانت")، سوى بذكر جزئها المتأخّر الذي صنعه الفيلسوف جان كالفن في العام 1541. إذ أكمل التمرّد على الباباوات بالدعوة إلى كهانة العامة، خصوصاً في عمله المرجعي "مؤسّسات الدين المسيحي"، بمعنى أن يكون الفرد مسؤولاً عن دينه وتديّنه. وباتت معروفة تلك الرابطة التي عقدها المفكّر ماكس فيبر في كتابه "الأخلاق البروتستانتيّة وروح الرأسماليّة"، بين التعزيز الهائل للفرد على يد البروتستانتيّة وبين الانتقال إلى الرأسماليّة. وإضافة إلى تعزيز الفرديّة دينيّاً، أزالت البروتستانتيّة عائقاً وضعته الكاثوليكيّة دوماً في وجه تسليف الأموال والحصول على الفائدة من الدَيْن، ما ساهم في تسارع عملية التراكم الأولي لرأس المال.

وكذلك توقّع فيبر وآخرون أنّ يطيح صعود الرأسماليّة، بأفكار التديّن كلّها، وهو ما لم يحصل وفق ما لاحظة كُثُر، ومن بينهم عالِما الاجتماع الأميركيّان: رونالد آنغلهارت وبيبا نوريس في كتابهما التوثيقي "مُقَدّس وعلماني" (2011). إذ وثّقت أرقامهما أنّ الولايات المتحدة هي الدولة الأشد تديّناً عالميّاً، مع استثناء الدول الإسلاميّة. وربما فتح ذلك الباب آفاقاً مغايرة في النظر إلى ظواهر، ربما كان آخرها فوز الرئيس الشعبوي دونالد ترامب، مع دعم من ولايات "حزام الإنجيل" في جنوب أميركا ووسطها. ألا يبدو أيضاً أنّ الظاهرة الدينيّة تنجح في تجديد نفسها باستمرار، على غرار وصف معروف عن تجدّد الرأسماليّة؟

وباستعادة ذات صلة، ربط هيغل بين البروتستانتيّة والعقلانيّة، معتبراً أنّ "تاريخ العالم ينتقل من الشرق إلى الغرب... لأنّ أوروبا هي قطعاً نهاية التاريخ"، مع ملاحظة السبق لهيغل في استخدام ذلك المفهوم الذي أساء كثيرون فهمه أو النسج على منواله! وفي مثل معروف، اعتبر الاميركي، فرانسيس فوكوياما، انتصار الرأسمالية على الاشتراكية، نهاية التاريخ. لكنه، لم يتنبه إلى أن الأمر لا يتجاوز صراعاً بين نُظم وأنماط وسيطرات بشرية تماماً، ما جعله بعيداً من المقصد الهيغلي في نهاية التاريخ. وليس صدفة أن الفلسفة الحديثة لا تبدأ اسماؤها التي زرعتها في الكائن الإنساني (بالضد مما كان سائداً منذ الفلسفة اليونانية عن مركزية المطلق والكون)، إلا بعد زمن الاصلاح البروتستانتي.

وفي القلب من الربط بين العقلانية والبروتستانتية، هناك التدين الفردي الذي يعني امتلاك الفرد لـ"المطلق" (بالتعبير الهيغلياني) في تاريخ البشريّة، إنّه اندماج قاطع للميتافيزيقا في البشري الذي هو إبن الأرض، وكذلك فإنه ممتلك الأعمدة المتصلة بالسماء. 

واعتبر هيغل، البروتستانتيّة، "شمس التنوير كلّه"، ممهداً للقول بأنّ الحريّة لا يمكنها تجاوز تجسيدها الغربي الحديث، خصوصاً ربط امتلاك الفرد للمطلق (بالمعنى الهيغلي) الديني، مع ترسّخ العقلانيّة. وإذ انتقلت الفلسفة تدريجيّاً إلى الفرد وشوؤنه، غادرت بدايتها اليونانيّة المغرقة في التفكير بأفاهيم مطلقة محورها الميتافيزيقا. وزاد في قوّة الانتقال عينه، أنّ الكاثوليكيّة تبنّت طويلاً فلسفة أرسطو، ما ربط بين التمرّد عليها والخروج من الثوب الميتافيزيقي الثقيل لأرسطو أيضاً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها