الإثنين 2017/10/23

آخر تحديث: 11:59 (بيروت)

قانون مجمع اللغة العربية.. كهنة مصر حرّاس المعجم

الإثنين 2017/10/23
قانون مجمع اللغة العربية.. كهنة مصر حرّاس المعجم
يُتوقع أن يلقى اقتراح القانون هوىً لدى الحكومة، لرغبتها المستمرة في الجباية (اللوحة لأحمد أبو العدس)
increase حجم الخط decrease
فى مصر، تحاول مؤسسات حكومية فرض هيمنتها ووصايتها على المجتمع، تلتهم في سبيل ذلك مساحات هائلة من كعكة الحرية الافتراضية، مخلفةً هوامش قليلة للأفراد والكيانات المستقلة للتحرك، خصوصاً في الفضاء العام، الذي يملكه المجتمع، أي الشعب المصري الأكثر والأكبر عدداً من مؤسساته. فوضعت وزارة الأوقاف المصرية، خطبة موحدة لكل صلوات الجمعة، لتصادر أي ارتجال في الخطاب الديني قد ينتج عن خصوم الدولة السياسيين. كما تدخلت دار الإفتاء المصرية، فوضعت أكشاكاً في المساحات التي يملكها العامة في غدوهم ورواحهم لمنحهم فتاوى مجانية متنقلة. وهذه المرة، الهجمة لمجمع اللغة العربية.

وضع المجمع قانوناً - انفردت صحيفة "أخبار الأدب" المصرية بنشر مواده العشرين- يصادر حرية المؤسسات المختلفة في التعامل مع اللغة العربية، ومن ثم تطويرها، ويمنعها من استخدام اللفظة المناسبة العصرية لحاجاتها، سواء كانت هذه الحاجة إعلانية، أو دعائية، أو فنية بصرية كما هو في حالة الأفلام والمسلسلات. القانون الجديد الذي قدمه المجمع إلى مجلس الوزراء المصري، في محاولة لتمريره إلى مجلس النواب لانتزاع الموافقة عليه وإقراره، سيكرس كهنوت اللغة العربية المستخدمة في المجال العام، وسيفتح المجال أمام ازدراء العامية التي لم يعترف بها القانون وسيلة للحديث والتخاطب، بل اعتبرها "لهجة". كما يتفق القانون مع هوى الدولة المصرية، الراغبة في فرض المزيد من الغرامات المالية، والعقوبات البطاشة بالحبس، على العديد من المصريين ممن يضعهم مصيرهم في مخالفة للقانون.

في مادته الأولى، يقصي قانون مجمع اللغة العربية، كل اللغات الأخرى، لصالح استخدام اللغة العربية، فيقول نص المادة: اللغة العربية هي اللغة الرسمية الوحيدة في جمهورية مصر العربية، ولا يجوز استعمال أي لغة أخرى في المُكاتبات والبيانات والعطاءات والإعلانات والعقود والمخاطبات الرسمية والتراخيص، والإيصالات والعقود والسجلات والدفاتر والمحاضر". واللافت في هذه المادة أن مجمع اللغة العربية، فاته أن الدولة تتعاقد مع مؤسسات أجنبية وشركات دولية، لا يمكن أن تحرر عقودها معها باللغة العربية. فهل ستحرر الدولة عقوداً بالعربية مع شركات البترول الإيطالية المنقِّبة عن الغاز الطبيعي في حقول البحر المتوسط؟ وهل سيقرأ شركاء صندوق النقد الدولي، عقد القرضن باللغة العربية، أو يقبلون التوقيع على لغة لا يستطيعون قراءتها، لمجرد أن مجمع اللغة العربية قرر ذلك؟

المادة الثالثة من القانون تحظر استخدام أي لغة غير العربية في الإعلانات التي يتم بثها مرئياً، أو تلك المنشورة في الطّرق، أو على وسائل النقل العام. ونعود مرة أخرى هنا إلى إشكالية إعلانات الشركات الأجنبية والمستثمرين الأجانب، والدولة في خضوعها وانبطاحها أمام شركائها الدوليين، لن يكون في مقدورها فرض هذه المادة على المستثمرين الذين يرغبون في تضمين عبارات ومصطلحات أجنبية، أو عامية ضمن حملاتهم الإعلانية.

وتشكل المادة الرابعة من القانون قيداً عجيباً، ومحاولة غير مفهومة لفرض الفصحى على الأعمال الفنية المسموعة والمرئية، إذ تنص المادة على: الأفلام والمسلسلات وسائر المصنفات الناطقة بغير العربية، والمرخص بعرضها في مصر مرئية أو مسموعة، يجب أن تصحبها ترجمة عربية صحيحة منطوقة أو مكتوبة.

نص المادة كما هو مضحك، فهو أيضاً مثير للشفقة. فهل يتوقع صاحب هذه المادة، أن يهرع منتجو الأفلام والمسلسلات في مصر، إلى وضع شريط ترجمة فصيح، مصاحب لأحاديث أبطال هذه الأعمال؟ هل حقا خطر في باله أن هذه هي الطريقة المثلى لحماية اللغة العربية من الموات المحدق بها؟ وهل سينقذ تفعيل هذه المادة اللغة العربية من التهديدات المحيطة؟

أظهر القانون ليناً وانحيازاً إلى وضع اللغة الأجنبية في ما يتعلق بالبضائع المصدرة للخارج. فالحمد لله والشكر لواضع هذه المادة. لا أتخيل أن يقف أحدهم في أحد المحلات الأوروبية ليقرأ مثلاً: فول مزروع ومعبأ في مصر، باللغة العربية.. أو يحدق مستهلك أميركي في إحدى المحال التي تعرض الفراولة المصرية، في كلمة "فراولة"، من دون أن تُكتب أيضاً كلمة strawberry، معتمداً فقط على الشكل الثمرة داخل عبوتها.

وهذا ليس كل شيء، بل يشدد القانون على كتابة أوراق النقد والمسكوكات، والطوابع والنياشين والأوسمة المصرية باللغة العربية، وهو الأمر المنطقي، الذي لا يحتاج إلى مادة، وكذلك كتابة أسماء الشوارع والأحياء والحدائق العامة والشواطئ والمنتزهات، مستثنياً المواقع المسماة بأسماء أَعلام غير عربية.

ولعل المواد التي تبدو منطقية، وشديدة الوضوح في ضروريتها، وأهميتها، تلك المتعلقة بالتعليم. فلا ننكر أن تدريس اللغة العربية يواجه تأخراً هائلاً في المدارس والجامعات المصرية، وأن بعض الخريجين جهلاء بأبسط قواعدها. لهذا، نص صاحب هذا القانون في مواده التاسعة والعاشرة والرابعة عشرة، على أن الدولة تعتمد سياسة لغوية ملزمة لجميع مؤسساتها العلمية والتعليمية، من شأنها التخطيط لتعريب تدريس العلوم كافة في المدارس والجامعات، وتشجيع الأساتذة على التأليف في تخصصاتهم باللغة العربية وترجمة أحدث المراجع في كل علم من لغته الأصلية إلى اللغة العربية.

لكن لفظة التعريب تثير اللغط حول نية واضع نص هذه المادة، هل يمكن تعريب علوم الطب؟ والصيدلة؟ وطب الأسنان؟ أليس في ذلك انفصالاً مؤكداً عن الإنسانية، التي تدرس هذه العلوم بلغاتها؟ وإذا كانت العربية لم تضف إلى الإنسانية أي جديد في علم الطب أو الصيدلة أو الأدوية منذ أجيال، فكيف يمكن تعريب هذه العلوم، وتدريسها بالعربية؟

كما تبدو استحالة تطبيق مشروع هذا القانون في الواقع، خصوصاً في مادته الـ12، التي تلزم المؤسسات الصحافية والإعلامية بتعيين مصححين لغويين مؤهلين تحرّي صحة ما ينشر أو يذاع من الناحية اللغوية، وحظر نشر مقالات أو أخبار أو غيرها باللهجة العامية. يتعامل نص المادة بجهل شديد مع ما يجري داخل المطبخ الصحافي. فالواقع أن المؤسسات الصحافية في مصر تتعامل مع مصححي لغة، لكن المتون الخبرية دائماً ما تحتمل إضافة فقرات بالعامية، بحسب منطوق المصادر الصحافية، وبعض هذه الفقرات جذابة في المانشيتات، أكثر من الترجمة الفصيحة، بل أحياناً لا تجوز ترجمة منطوق المصدر بالعامية، إلى فصيح، لأنه يغير المعنى، ويجعله ملغزاً، ويفقده بريقه بما يحمله من معنى.

يزدري القانون، العامية، ويصفها بأنها "لهجة"، متناسياً إرثاً فنياً هائلاً للعامية، له امتداداته الشعبية والثقافية والشعرية. ويعاقب مرتكب الكتابة بالعامية، وكذلك المخالفين لنصوص المواد السابقة، بغَرامة لا تقل عن عشرة آلاف جنيه، ولا تتجاوز 50 ألف جنيه. كما قد يتعرض مُخالف القانون لعقوبة بالحبس مدة لا تزيد عن 6 أشهر، وغرامة لا تقل عن 100 ألف جنيه.

ومن المتوقع أن تلقى هذه المادة الأخيرة هوىً لدى الحكومة المصرية، لرغبتها المستمرة في الجباية، وتحصيل الغرامات والمخالفات من المواطنين المصريين الذي يغض أغلبهم الطرف عن قراءة القوانين، فيجدون أنفسهم فجأة ضحايا عقوبات على وضع لافتة بالعامية، أو بالإنكليزية، أو بعربية خاطئة. وإن كانت هناك ضرورة لمثل هذا القانون، وهو شيء لا يسعنا إنكاره مع الكم الهائل في الأخطاء الإملائية المتضمنة في لافتات مرافق النقل العامة ولافتات الهيئات الحكومية، والتاء المربوطة التي تُكتب دائما "هاء مربوطة" مثل "هيئه الابنيه التعليميه"، فلماذا تم تمريره في سرية، من المجمع إلى مجلس الوزراء، بلا جلسات استماع لمناقشته اجتماعياً، أو للتحاور حول بنوده مع المهتمين والمتصلين بممارسة اللغة؟

هذه السرية في تمرير القانون تشي برغبة أصحابه في فرض هيمنتهم الكهنوتية على المجتمع ووصايتهم على تطوره. فالإمعان في حراسة المعجم، يصب في مصلحة كهنته الخائفين على عروشهم، من محاولة التطوير والتجديد، ولا يصب في صالح اللغة العربية التي تنعدم المبادرات الجادة لتطوير تدريسها.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها