الأربعاء 2016/09/28

آخر تحديث: 11:53 (بيروت)

ناهض حتر بين الذات الإلهية والذات التدميرية

الأربعاء 2016/09/28
ناهض حتر بين الذات الإلهية والذات التدميرية
القاتل والقتيل من سلالة واحدة
increase حجم الخط decrease
في عمّان – الأردن، قُتل الكاتب "الممانع" ناهض حتر على يد أحد غلاة "الدواعش"، بتهمة التطاول على الذات الإلهية من خلال نشر رسم كاريكاتري... وقبل أيام، طالب نائب كويتي، اسمه صالح، بمعاقبة المسؤولين عن استدعاء الشاعر اللبناني وديع سعادة صاحب ديوان "ليس للمساء أخوة"، الذي سبق ودعاه المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب خلال فعالياته الثقافية. وبرر النائب الكويتي "المجاهد" طلبه هذا بكون سعادة قد طعن في "الذات الإلهية والأديان".(على الهامش، النيابة العامة الكويتية أوقفت مؤخراً، المغردة سارة الدريس بتهمة إهانة الذات الأميرية).

بين قتل الكاتب أمام قصر العدل، وتكفير الشاعر في الكويت، عقل داعشي بجمع بين القاتل والنائب الذي قد يكون من جوقة النواب الذين شنوا هجوما على نانسي عجرم واخواتها قبل سنوات، خوفاً من الرقص والغناء والجسد... وهم يبحثون عن مجرد حجة لمحاربة الآخر أو الحرية أو الفرح، هم أبناء التصحر الفكري الذي يمجّد العدم والخراب. وليس النائب الكويتي أول من يتجنى على وديع سعادة، فحين أرادوا تكريمه في القاهرة، طبعوا مختارات من أعماله، وتبيّن أنهم حذفوا كلمة "الله" توجساً من الأصوليات، بمعنى أنهم استسلموا لتوهمات غلاة التكفير...

وحَذْف كلمة "الله" من قصائد سعادة، يبدو "سهلاً" مقارنةً بقضايا أخرى. فقد حوكم الشاعر المصري حلمي سالم بسبب قصيدة "شرفة ليلى مراد"، التي أحدثت عاصفةً من السجال بين عدد من المثقفين المصريين وبين جماعات إسلامية متطرّفة حملت بغضب على هذه القصيدة، معتبرةً إيّاها مسيئةً إلى "الذات الإلهية". ردّ حلمي سالم على مطالبته بالاستتابة بقوله إن الاسلام لا كهنوت فيه ليقوم بعض المسلمين بتكفير البعض الآخر: "إن القصيدة التي كتبتُها، والتي هي موضع شكوى لدى البعض، خالية من أي إساءة للذات الإلهية، وإن الصفات التي وردت للربّ يجب قراءتها في إطار الإبداع الشعري". وكانت "ثمرة" قصيدة سالم أن أصدرت محكمة القضاء الإداري المصرية حكماً بإلغاء ترخيص مجلة ''إبداع'' ومن السهل أن ينصاع القضاء والسلطة لمتخيل المتطرفين واتهاماتهم... ومَن يتابع الردود الشنيعة على قصيدة حلمي سالم، يدرك هول الغوغاء وبحثهم عن أي سبب سخيف للتكشير عن أنيابهم، فيدلفون لغة الشتم والاتهام وهي أشبه بدعوة الى قتل شاعر لمجرد قصيدة أدبية. ومن دون شك، يحب الشعراء استعمال المجازات والرموز في قصائدهم، وفي المقابل تعيش الجماعات المتطرفة والخاوية حمى البحث عن أي كلمة من أجل جموح التكفير والغضب، فالتكفير عندهم وسواس...

قضية الذات الإلهية في الكتابة، كثيراً ما كانت ذريعة لمشكلة في الشارع. فذات مرة، أحرقت مجموعة من الأصوليين جريدة "النهار" في الشارع رداً على "رسالة الى الله" كتبها الشاعر عقل العويط في الجريدة، وأُهدر دم الروائي نجيب محفوظ بسبب رواية "أولاد حارتنا" والشاعر العراقي الكردي شيركو بيكه س بسبب قصيدة سأل فيها عن مقاس "قَدَم الله". ولم ينج الشاعر محمود درويش من تهمة الكفريات والتطاول على الذات الإلهية، فأحدهم يكتب قائلاً "محمود درويش ينطلق بشعره انطلاقا شيطانيا بتخبط في بحار الظلام ومستنقعات الكفر، ونسي أنه ينتمي إلى عائلة مسلمة فلسطينية، ومع ذلك نراه يشكر الصليب ويعتده مصدر النور والهداية"...

وبرغم نفيه تهمة "إهانة الذات الإلهية" وتروبج أفكار إلحادية، حكمت محكمة في أبها-السعودية على الشاعر الفلسطيني المولود في السعودية أشرف فياض بالإعدام. الحكم الذي استندت عليه المحكمة مستمد من قراءة "شرعية" لكتاب "التعليمات بالداخل". وبعد حملات ثقافية واعلامية ألغت المحكمة السعودية العامة حكم الإعدام وحكمت عليه عوضاً عن ذلك بالسجن 8 سنوات و800 جلدة. والقضية في جوهرها قائمة على وشاية من صديق سابق للشاعر، وأن يكون مضمون الوشاية تحريضاً حول أمور دينية تلك هي المصيبة...

في معظم القضايا التي أوردناها، بقيت الأمور في إطار صراع الأدباء مع مَن يدعون أنهم فقهاء الدين أو وكلاء الله على الأرض. ومع قضية ناهض حتر واغتياله هناك شيء من التعقيد والالتباس. فالاغتيال حصل في مرحلة تعرُّض منطقة بكاملها للاغتيال، واختلطت فيها لعبة الاستخبارات بمسرحية الاغتيال وطريقة إخراجها. قتل الكاتب على يد متطرف من اصحاب السوابق، وبقي الناس يتفرجون، وكانت فتاة مسلمة ومحجبة هي التي تحاول إنقاذه. وفي اليوم التالي، نقرأ خبرا سوريالياً عن أن المسيحيين يقرأون "الفاتحة" على روح المرحوم (المسيحي المولد) أمام قصر العدل... وكان حتر "اليساري" الذي قتل بتهمة الإساءة للذات الإلهية، نموذجاً للكاتب المُمجّد للذات الدكتاتورية والتهجيرية والقاتلة والفاتكة والطغيانية والهولوكستية، الى درجة ان الجريدة الممانعة التي احتضنت تطرفه وداعشيته اليسارية الممانعتية، اعتذرت عن إحدى مقالاته، وهكذا يتشكل المشهد من داعشيات بألوان كثيرة، لكنها بنواة واحدة تدميرية، آحادية، الغائية، تعسفية... التنديد بالاغتيال من البديهيات، ورفض أشكال القتل من البديهيات، لكن هذا لا يمنع من قول الأمور عن القاتل كما عن القتيل... فالرصاص لا ينظف سجلّ أحد، سواء كان علمانياً أو إسلامياً أو مسيحياً أو يسارياً أو أميركياً أو روسياً.

وما يلفت الانتباه هو اندفاع "حزب الله" إلى إدانة اغتيال حتر باعتباره "مناضلاً كبيراً في مواجهة المشروع الصهيوني ومدافعاً عن القضية الفلسطينية وعن محور المقاومة". هكذا، "حزب الله" براغماتي قبل كل شيء، ولديه معايير مزدوجة في التعاطي مع الأمور "المقدسة" وغيرها. ولأن حتر "مناضل" و"مع المقاومة"، غض الحزب النظر عن "التهمة" الموجهة إليه (نشر رسم كاريكاتوري أعتبرته المحكمة الأردنية مسيئاً للذات الإلهية).

أما الروائي سلمان رشدي، فهناك إلحاح في الدعوة الى قتله. ففي 2 -2-2006، قال الأمين العام لحزب الله اللبناني، حسن نصر الله: "نحن مليار وأربعمئة مليون مسلم لا نتحمل أن يهين أحد نبيّنا ويقدمه بصورة كريهة كما قدمته هذه الصحف (الغربية)"، وأضاف "لو قام مسلم ونفّذ فتوى الإمام الخميني بالمرتدّ سلمان رشدي لما تجرأ هؤلاء السفلة على أن ينالوا من الرسول، لا في الدنمارك ولا في النروج ولا في فرنسا".  

حرية الرأي قضية دائمة وشائكة في العالم العربي والإسلامي، وإن تبدلت الأنظمة، وإن اختلفت، سواء في زمن الأنظمة الوطنية أو الأنظمة الثورية أو الأنظمة العسكرية والإسلامية... كل نظام يبحث عن ذات إلهية أو "خدش حياء عام" أو "إهانة للشعور القومي" يتلطى خلفها من أجل من ممارسة القمع والتشبيح، وهذه أمور تشكل ذريعة للتدمير والبلبلة وإباحة السجون والقتل...

باختصار، كل ما يحصل حول الذات الالهية، في جانب منه، إشارات الى التصحر الفكري، وفي جانب آخر إشارات الى الخبث السياسي. أما ناهض حتر وقاتله، فهما من سلالة واحدة، متخاصمة، متلاقية، وهي سلسلة الذات التدميرية الأسدية- الداعشية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها