الخميس 2016/08/04

آخر تحديث: 12:38 (بيروت)

حلب... مدينة المدن

الخميس 2016/08/04
حلب... مدينة المدن
نوستالجيا حلب
increase حجم الخط decrease
ذات مرة، في زمن الوصاية الأمنية الأسدية على لبنان، كتب احد الأصدقاء السوريين مقالا طويلاً عن حلب وتاريخها وتحولاتها وناسها، ووصفها أخيراً بأنها "حلبية" أي لها خصوصيتها خارج الولاءات والايديولوجيات، التي كان يضعها نظام البعث وأجهزته المخابراتية... بسبب هذا المقال ونفيه صفة العروبة البعثية الاسدية عن المدينة العريقة، داهمت المخابرات السورية منزل الصديق في ريف حلب بحثاً عنه، ولم تجد إلا والدته العجوز وبعض كراسات لينين الحمراء الباقية من الزمن الشيوعي، وكانت المداهمة لحظة شعور بالمطاردة الأمنية، ومقدمة لهروب الصديق الى فرنسا عن طريق بيروت والعيش في المنفى...

حلب، هذه المدينة التي نعرفها بمأكولاتها وذاكرتها السياسية وصناعاتها وألوانها الغنائية (القدود) وفرقها الصوفية وأقوال المتنبي في توصيفها والاشتياق لها (كلما رحبّت بنا الروضُ قلنا: /حلبٌ قصْدُنا وأنتِ السبيلُ)، وحياة سيف الدولة فيها، ونعرفها أيضا بأنها مقصد أهل الفن، كانت حلب مركزا ومدينة اختبار وامتحان لكبار رواد الموسيقى والغناء والاستعراض مثل بديعة مصابني، عبده الحامولي، سيد درويش، سلامة حجازي، محمد عبد الوهاب، كارم محمود، نور الهدى، سعاد محمد والكثير غيرهم...

والآن مع اشتداد المعارك للسيطرة على المدينة، عاد الحديث عن تاريخ المدينة وهويتها وأهميتها ومساراتها وموقعها على تخوم السهول الغضة، على عكس دمشق الواقعة على أطراف الصحراء، وأهمية حلب عدا عن أنها العاصمة الاقتصادية لسوريا، فهي لها حكاياتها وميتولوجياتها في اللاوعي السياسي والديني للمتحاربين والمتصارعين. الصراع على حلب يعتبر جزءاً من الصراع على التاريخ، وتشكل ميدان قتال لآخر النسخ من "الحروب الدينية التي شكلت تاريخ الشرق الأوسط على امتداد ألف عام من الزمن" بحسب توصيف أحدهم. المعارضة السورية سمّت معركة فك حصار حلب بـ"ملحمة حلب الكبرى"، وامين عام حزب الله نصرالله قال إن من يسيطر على حلب يسيطر على المنطقة، في المقابل تعتبر التحليلات أن المدينة "حلب خط أحمر تركي"، وفي السياق عينه ركزت بعض التعليقات الصحافية العربية على كتاب "حلب: صعود وسقوط مدينة سوريا التجارية الكبرى" للمؤرخ فيليب مانسيل الذي يرى أن الأمكنة التي تجمع بين القدم والتنوع مثل حلب قليلة جدًا، وأنها من أقدم المدن التي ظلت مأهولة بصورة مستمرة. تناوب على حكمها الآشوريون والفرس والإغريق والرومان والعرب والعثمانيون والفرنسيون، وخلال الحكم العثماني كانت ثالث أكبر مدينة في السلطنة بعد القسطنطينية والقاهرة...  

مانسيل صاحب كتاب "القسطنطينية: المدينة التي اشتهاها العالم"، والمعروف بكتاباته عن موت المدن وأفولها وتحولاتها من الإسكندرية إلى بيروت، قال في مقالة له نشرت في "لوس أنجليس تايمز" إن حلب حتى العام الثاني من الحرب السورية في 2012، كانت مدينة عالمية يعيش فيها خليط متنوع من السكان في سلام. لكنها "دخلت في أتون الصراع بين السنة والشيعة والعلمانيين، ورجال الدين والطغاة والليبراليين والعسكريين والمدنيين، وهي الحروب التي تدمر العالم الإسلامي حالياً من مالي إلى ماليزيا".

وحلب "الحلبية" يمكن تكوين صورتها من بعض أقوال الرحالة والكتاب، فابن بطوطة زارها وقال ما قاله عنها أبو الحسين بن جبير: "قدرها خطير وذكرها في كل زمان يطير"، وقال ياقوت الحموي (معجم البلدان) "إن الله خص حلب بالبركة و فضلها على جميع البلدان"، واعتبر الرحالة الإنكليزي بوكوك (القرن 19) "حلب من أجمل مدن الشرق"، وقال الرحالة الفرنسي فولني (القرن 18): "قد تكون حلب أنظف مدينة في السلطنة العثمانية وأجملها بناء وألطفها عشرة وأصحاها مناخا والحلبيون هم اكثر أهل السلطنة تمدناً"، واعتبر الفرنسي دافيور 1683 م:(رحلة دافيور – الجزء السادس ص 411) إن مدينة حلب هي الثالثة في الممتلكات العثمانية بالأهمية، فبوصفها وسعتها وسكانها ورخائها، هي اقل من القسطنطينية والقاهرة، إلا أنها بصحة هوائها ومتانة بنائها وأناقتها ونظافة طرقها أفضل من الاثنتين، وعلى الرغم من ضعفها التجاري النسبي، إلا أنها لا تزال تتمتع بشهرة تجارية...(الراجح ان الصورة تغيرت، ففي زمن الأيديولوجيات البعثية انحدرت حلب نسبيا، وفي زمن الفراعنه الجدد(من السادات الى السيسي) لم يبق في القاهرة إلا الذاكرة، بينما سيطرة إسطنبول على الواجهة في العمران والألق والحداثة). 

وحلب أيضا في التوصيفات تبدو كأنها تختصر العالم أو مرآة لمدنه ونواحيه وشعوبه، داندولو- قنصل البندقية العام 1599م قال: "حلب الهند الصغيرة بخاناتها الواسعة وتجارها الأغنياء ومبانيها الجميلة، الرحالة الإنكليزي رامبلز عام 1858 وصف حلب بأنها لندن الصغيرة لمن يقصدها بعد زيارته المدن الخراب والبادية الصحراوية فانه يجد فيها الراحة والانشراح وسكانها هادئون ومسالمون، وقال لامرتين – 1830: "حلب أثينا الآسيوية، وأخلاق أهلها تمتاز بالسمو والنبل"... وكتب إدوارد لورنس في "أعمدة الحكمة السبعة": وإذا ما أوغلنا أكثر إلى الداخل لنصل إلى حلب، فاننا نجد في تلك المدينة التي تعد مائتي ألف نسمة، صورة مصغرة لكل العناصر والأديان الموجودة في الإمبراطورية العثمانية… ومن خصائص حلب الفريدة، أنك تجد فيها، رغم حرارة الأديان، تآلفا غريبا وتعايشا سلميا بين المسيحيين والمحمديين واليهود، وبين الأرمن والعرب والأكراد والأتراك، لا تجد له مثيلا في أية مدينة أخرى في الإمبراطورية العثمانية.

والنافل ان حلب تلقت أكبر الضربات في بداية القرن العشرين ربما تشبه بذلك طرابلس اللبنانية، فعند سقوط الخلافة العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى سلخت عن حلب امتدادها الشمالي والتقليدي (معظمها ضمن الأقاليم السورية الشمالية) التي ضمت إلى تركيا العام 1920 بالاتفاق بين مؤسس تركيا الحديثة كمال أتاتورك وسلطات الانتداب الفرنسي. خسرت حلب التجارة مع بعض مدن هذه الأقاليم خاصة المدن التي كانت تابعة لولاية حلب تاريخيا كعنتاب ومرعش وأضنة ومرسين، كما خسرت السكك الحديدية المهمة التي كانت تصلها بالموصل. أدت اتفاقية سايكس بيكو وفصل العراق عن سورية إلى كساد وتدهور كبير في اقتصاد حلب. وفي العام 1940 فقدت حلب إمكانية وصولها إلى البحر بعد خسارتها لمنفذها الرئيسي على البحر المتوسط في الإسكندرونة. تراجع موقع حلب السياسي بسبب جعل مدينة دمشق عاصمة لسورية، كما تراجع دور طرابلس اللبنانية بعد دعم الفرنسيين دور بيروت وتهميش الفيحاء لأسباب معروفة. في زمن التهلكة الاسدية، تضررت حلب بشكل كبير إنسانيا واقتصاديا بفعل القتال والقصف ونقل المعامل والمصانع إلى تركيا، وتوقفت عجلة الاقتصاد في المدينة وتعرض الكثير من معالمها الأثرية للدمار مثل قلعة حلب والمسجد الأموي. وبدل تعدد الاثنيات والاعراق في المدينة، تعددت جنسيات المقاتلين الأجانب سواء المنضوين تحت لواء قاسم سليماني أو التابعين للتنظيمات المسلحة، وإذ كان الرحالة اطلقوا عليها تشبيها بمدن أخرى أوروبية واسيوية، فيمكن اطلاق توصيفات من نوع اخر، وهو تدمير حلب بالنسخة الروسية والأيرانية والاسدية والداعشية والجولانية والحزب إلهية...

تدمير حلب في جوهره، يعني تدمير سوريا.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها