الثلاثاء 2016/08/30

آخر تحديث: 13:25 (بيروت)

محفوظ.. إعادة تدوير السؤال

الثلاثاء 2016/08/30
محفوظ.. إعادة تدوير السؤال
السنوات الخمس الأخيرة كانت قادرة، ربما، على استيعاب كل قدرتنا على التمرد
increase حجم الخط decrease
اليوم تكتمل 10 سنوات على رحيل نجيب محفوظ. والعلاقة بين ما تركه، وبين شباب الأدباء، هي عنوان دائم وسط ما يُعدّ عنه من ملفات صحافية.

منذ أيام، قالت لي صديقة كلامًا عن ملاحظتها تغيّراً في نبرة بعض هؤلاء الشباب عند الكلام عن صاحب "الحرافيش"، وتقصد نبرة أقل حدة مما كانت عليه قبل سنوات، حين كانت اللهجة تحمل شيئًا غاضبًا يرى أنه لا يليق وقف التاريخ الأدبي عند تلك اللغة المحافظة، أو عند هذا البناء الروائي شديد الكلاسيكية، وانتشار تعبير "السرد المحفوظي"، كوصف سلبي لعمل ما.
خفُتت تلك الحدة في السنوات الأخيرة، وباتت اللهجة أقرب إلى التقدير منها إلى النديّة، وصار بعض "أحلام فترة النقاهة" تصلُح للتعبير المجازي عن بعض مشاهد المحيط العام، سياسيًا أو إنسانيًا.

وأنا لا أرى غرابة في أن يظل المشروع الأدبي لنجيب محفوظ رهن متغيرات التلقي حتى هذه اللحظة، ولا أعتقد أن هذا أمر قيد الانتهاء. ولم أتصور يومًا، أن فورة الإعلان، العنيفة ربما، عن التمرد على السرد المحفوظي من قبل شباب الأدباء، كانت ترجمة لعدم الإعجاب أو النظرة له نظرة الأدب الذي "راحت عليه"، أو تلك التفسيرات السطحية والمُعلبة.

المسألة أيضًا تحتاج إلى تحديد المقصود بـ"شباب الأدباء"، من هُم؟ هناك أكثر من جيل أدبي مرّ بمرحلة الشباب في حياة محفوظ. أتصور أن حدة النبرة تجلّت في مرحلة التسعينيات. يذكرني طارق إمام بأن التالين على تلك المرحلة، تحديدًا من أُطلق عليهم "جيل الكتابة الجديدة"، لم تكن الإشكالية بالنسبة إليهم حادة منذ البداية.

عمومًا، ليس من المعقول أن هناك مَن لا يزال متكئًا على تقنيات شبيهة أو لغة شبيهة لكتابة محفوظ بعد كل هذه السنوات. هذا خارج أي منطق. المفارقة ليست هنا، بل هي في احتياج أبناء الأجيال الجديدة لأن يقولوا هذا بصوت مرتفع، رغم وجود من أنهى الحكاية قبلهم بكثير، بالأحرى منذ ظهرت كتابات جيل الستينيات، متحررة، في نماذج ناجحة كثيرة، من تلك اللغة وذلك البناء، بل إن بينهم مَن شارك بعد فترة في تخليص الأدب من عبء القضايا الكبرى والمفاهيم الكلاسيكية، واعتبار أسئلة الفرد عبر رصد تفاصيل الحياة اليومية، كفيلة بطرح سؤال الإنسان عمومًا.

الأمر، في تقديري، له علاقة بمرحلة زمنية احتاج أبناؤها إلى المجاهرة العنيفة بالتمرد على كل سلطة، وهدم التقديس في كل أشكاله. احتقار حُرّاس العيب وتقدير "الكبير" بوازع أخلاقي، فضلًا عن المغالاة المستفزة للناقد الكلاسيكي المُتيّم باللجوء المستمر إلى المُكرّس والقديم من باب الاستسهال، وعدم التفاته جادًا إلى متغيرات الزمن، الأمر الذي راح بالمشهد النقدي المصري إلى الحالة التي نراها.

غير أن السنوات الخمس الأخيرة كانت قادرة، ربما، على استيعاب كل قدرتنا على التمرد وتكسير التابوهات في غالبية أشكالها، فبلورت أسئلة "الكتابة الجديدة" التي كانت بدأت في التكوين قبل نحو 10 سنوات، وساهمت في بناء طبقات فوق طبقات من الوعي الجديد. ليست لديك، ككاتب، أسباب حقيقية للنديّة. ليس هناك ما يثير خجلك في إعلان انبهارك بالمشروع المحفوظي، حيث أن الجميع من حولك بات يعرف حدود هذا الانبهار. الجميع يفهم أن لديك وفرة في معطيات بناء عالمك الخاص، أن أدواتك لبناء هذا العالم هي أدوات شديدة الاختلاف، وأن قاموسك اللُغوي هو قاموس آخر.

أخشى أن هناك ما يشبه إعادة تدوير لمفهوم السؤال الإنساني، بإجبار من الظرف العام على العودة إلى تحميل الأدب أعباء الأسئلة الكبرى مرة أخرى، بعدما كانت قد اختُزلت في الجنوح إلى رصد تفاصيل الحياة اليومية. ذلك أن تلك الأسئلة الكبرى أصبحت، للأسف، هي أسئلة الفرد يوميًا، ما جعل بعض مقاطع روايات محفوظ، ملائمة تمامًا لأن يضعها القارئ الحديث، "قارئ السوشال ميديا"، في خانة "الستاتوس" في "فايسبوك".
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها