الإثنين 2016/08/15

آخر تحديث: 12:53 (بيروت)

معبَد الرياضة.. آلهته السياسة

الإثنين 2016/08/15
معبَد الرياضة.. آلهته السياسة
تصريح ماريو اندرادا بأن "الرياضة محايدة سياسياً" هو ربما المقولة الأكثر تسييساً في ما يخص الرياضة
increase حجم الخط decrease
خلال الأسبوع الثاني من أولمبياد ريو، أصدرت محكمة برازيلية فيدرالية حكماً، ربما هو الأول من نوعه، ينص على أن أي تقييد لحرية التعبير أو التظاهر السياسي داخل المدرجات الرياضية يعد خرقا للدستور البرازيلي. وأتى الحكم على خلفية قيام الشرطة البرازيلية في اليوم الأول من الدورة، بإخراج بعض المتفرجين بالقوة من المدرجات، بسبب رفعهم لافتات سياسية، معارضة للحكومة البرازيلية المؤقتة. ويتعارض الحكم البرازيلي مع نص الفقرة الخامسة من الميثاق الأولمبي: "لا يسمح بأي نوع من التظاهر أو الدعاية السياسية أو الدينية أو العرقية في الساحات الأولمبية"، وهو الأمر الذي أكده أحد المتحدثين الرسميين باسم أولمبياد ريو، ماريو اندرادا، في تعليقه على الحكم: "الألعاب الأولمبية هي معبد الرياضة وليست للسياسة أو الدين... فالرياضة محايدة سياسياً ودينياً".

عبر التاريخ الأولمبي، كانت الدورات الأولمبية ساحة للصراع السياسي الدولي، وبشكل علني، عاكسة تحولات توازناته وخلافات أقطابه المهيمنة.

ففي دورة العام 1936، استغل النازيون استضافة برلين للمنافسات الأولمبية، لإثبات استعادة ألمانيا الصاعدة، لموقعها بين جيرانها الأوروبيين، وللترويج لبروباغندا عظَمة الجنس الآري. كان فوز جيسي أونز، الأميركي الأسود، بأربع ميداليات ذهبية، وتتويجه نجماً لتلك الدورة، محبطاً لهتلر بشكل شخصي. ومع هذا، فإن الدورة استحقت اسمها الذي التصق بها لاحقا: "الأولمبيات النازية". وبعد الحرب العالمية الثانية، استضافت لندن دورة العام 1948، والتي حرمت اليابان وألمانيا من المشاركة في منافساتها، فيما لم يلبِّ الإتحاد السوفياتي الدعوة للحضور. وسجلت دورة هلسنكي 1952، بداية الحرب الباردة الأولمبية. فالإتحاد السوفياتي الذي شارك للمرة الأولى، بعد أربعين عاماً من الغياب، كان قد خطط في البداية لإقامة بعثته في لينينغراد، ونقلهم يومياً إلى هلسنكي بالطائرات الحربية. لكن في النهاية، تم الإتفاق على فصل مقرات سكن بعثات دول الكتلة الشرقية عن دول الكتلة الغربية، في مجمّعين متباعدين. وفي الدورة التالية في ميلبورن 1956، انسحبت الصين من المنافسات بعد اعتراف اللجنة الأولمبية بتايوان، ولم تعد للمشاركة إلا بعد 23 عاماً، وانسحبت مصر والعراق ولبنان اعتراضاً على العدوان الثلاثي على مصر، أما إسبانيا وهولندا وسويسرا فقاطعت الدورة على خلفية اجتياح القوات السوفياتية للمجر. استبعدت اللجنة الأولمبية جنوب أفريقيا للمرة الأولى، من المنافسات الأولمبية، بسبب سياسيات الفصل العنصري، في دورة روما 1960. وفي دورة طوكيو 1964، تم اختيار يشينوري ساكي، المولود في اليوم الموافق لضرب هيروشيما بالقنبلة الذرية، ليكون حامل الشعلة الأولمبية. وفي الدورة التالية، في مكسيكو سيتي 1968، رفع العدّاءان الأميركيان من أصل إفريقي، تومي سميث وجون كارلوس، قبضتيهما، أي شعار "القوة السوداء"، بعد سباق المئتي متر، إحتجاجاً على السياسات العنصرية في الولايات المتحدة. وهيمنت عملية اختطاف الرياضيين الإسرائيليين، التي نفذتها جماعة "أيلول الأسود" المناصرة للقضية الفلسطينية، على دورة ميونيخ 1968، لكن العملية الأكثر دموية في التاريخ الأولمبي، لم تمنع استمرار الدورة بعد تعليقها لبضع ساعات.

وشهدت الدورة التالية، في مونتريال 1976، انسحاب 30 دولة إفريقية من المنافسات، اعتراضاً على مشاركة نيوزيلندا في الألعاب، بالرغم من قيام فريقها لـ"الروكبي" بجولة في جنوب إفريقيا خلال العام نفسه. وكذلك انسحبت تايوان بسبب ضغوط صينية على اللجنة المنظمة. وعلى خلفية اجتياح القوات السوفياتية لأفغانستان، انسحبت 60 دولة من منافسات دورة موسكو 1980. وفي الدورة اللاحقة في لونس انجليس، قاد الإتحاد السوفياتي، 14 دولة من المعسكر الشرقي لمقاطعة المنافسات العام 1984. 

دشنت دورة سيول 1988، مرحلة تحول درامي في التاريخ الأولمبي. فتراجع حدة الحرب الباردة أتاح للجنة الأولمبية أن تلعب دوراً سياسياً مباشراً وعلنياً. ففي مرحلة التمهيد للدورة التي كان مخططاً لها بأن تتم استضافتها في شطري الجزيرة الكورية المقسمة، انخرط أعضاء اللجنة الاولمبية في مفاوضات سياسية وزيارات ديبلوماسية مع ساسة البلدين، وبين عواصم الكتلتين الشرقية والغربية. وبالرغم من فشل تلك الجهود، وانسحاب كوريا الشمالية في النهاية، وتضامن إثيوبيا وكوبا ونيكارغوا معها، فإن الدورة كانت بداية لإعتراف بِدَور ذي طبيعة سياسية ودبلوماسية معلن للجنة الأولمبية، ولتدخلها في رسم السياسات الدولية.

كان لواقع عالم القطب الواحد أن يتجلى في دورة برشلونة 1992، فشاركت جمهوريات الإتحاد السوفياتي السابق بفريق موحد للمرة الأخيرة، فيما شارك الألمان الشرقيون والغربيون للمرة الأولى تحت علم ألمانيا منذ برلين 1936. وعادت دولة جنوب أفريقيا أخيراً، بعد سقوط نظام الأبرتهايد، إلى المجتمع الأولمبي. انضمت فلسطين وهونغ كونغ أخيراً، لدورة أتلانتا 1996، لتؤكد إنتهاء عصر التجاذبات السياسية الأقليمية. لكن الدورة أيضاً كانت الأولى التي لم يتم تمويلها حكومياً، واعتمدت اللجنة الأولمبية على الشركات الخاصة بالكامل لرعايتها. كان ذلك التحول انعاكساً لواقع ترسيخ النظام العالمي المالي الجديد، وسياساته النيوليبرالية، التي تلعب فيها الرساميل والشركات العابرة القارات أدواراً تتداخل مع الحكومات وتتخطاها في أحيان كثيرة.

أنهت دورة بكين 2008، الخصومة الطويلة بين الصين وتايوان، وتم التغاضي عن الاحتجاجات المناهضة لانتهاكات النظام الصيني لحقوق الإنسان، بحجة أن استضافة الصين للدورة ستسرع من إجراءات نظامها الإصلاحية وإندماجها في اقتصاد السوق وتبنّيها للقيم الديموقراطية. لاحقاً، مثلت دورتا لندن 2012، وريو 2016، النموذج الأكثر وضوحاً للدور الذي تلعبه الدورات الأولمبية في إعادة التشكيل المعماري والديموغرافي للمدن، وتأثيرها في سياسات وأولويات الحكومات في ما يخص التخطيط الحضري. فالدورتان شهدتا تخصيص استثمارات حكومية هائلة في البنية التحتية اللازمة لاستضافة الألعاب الأولمبية، على حساب أولويات أخرى أكثر إلحاحاً. وشهدت كل من لندن وريو، عمليات لإزاحة السكان من مناطق بعينها، إما قسرياً أو بشكل غير مباشر، نتيجة ارتفاع أسعار العقارات، وحلّت مكانهم لاحقاً طبقات إجتماعية أكثر ثراءً. كانت الحجج التي قدمتها الحكومتان البريطانية والبرازيلية في الحالتين، هو أن استضافة الدورة الأولمبية سيأتي بمردود اقتصادي مجزٍ للقطاعات الخدمية والسياحية في المدى الطويل. 

لكن تماهي السياسة مع الرياضة وهيمنتها عليها، لا ينحصر في عكسها لتحولات النظام العالمي. فنظرة على جداول الميداليات الأولمبية عبر تاريخها، تؤكد تراتبية جيوساسية، وهيمنة الدول الكبرى على قمتها. بدءاً من احتلال الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي  للمركزين الأول والثاني دائماً أثناء الحرب الباردة، وحتى اليوم، ما زالت الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، ومعها ألمانيا واليابان، تؤكد سيطرتها على ساحات التفوق الأولمبي، كما غيرها من المجالات. كذلك، تظل المدن المستضيفة للدورات الأولمبية، حكراً على دول العالم الصناعي، مع بعض الاستثناءات النادرة لصالح النمور الاقتصادية الصاعدة في آسيا وأميركا الجنوبية. تتشابك تلك التراتبية الأولمبية، مع مفهوم الدولة القومية، التي تأسست عليها الفكرة الأولمبية وطقوسها. فالِفرق المشاركة هي ممثلة لدول وطنية ذات سيادة، تحمل أعلامها وتعزف أناشيدها الوطنية عند الفوز، باعثةً حالة من النشوة القومية والفخار الوطني الاستثنائي يتم توظيفها سياسياً دائماً. بل والأهم، هو ذلك الدور التي تلعبه اللجنة في فرز تلك الدول، بناءً على معايير سياسية صرفة، لتعيين استحقاقها والاعتراف بشرعيتها من عدمه، تارة بقبولها أو نبذها بالكامل، وطوراً بعقابها جزئياً. 

ومع كل هذا، يظل الجانب الأكثر تسييساً في المنافسات الأولمبية، هو ذلك الوهم المروج عن الطبيعة اللاسياسية للرياضة، وتعيين مجالاتها لادّعاء حيادها واستقلالها عن علاقات القوى والهيمنة وتراتبياتها، بأشكالها المختلفة. هكذا، فإن تصريح ماريو اندرادا بأن "الرياضة محايدة سياسياً" هو ربما المقولة الأكثر تسييساً في ما يخص الرياضة على الإطلاق.  
 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها