السبت 2016/08/13

آخر تحديث: 13:14 (بيروت)

أولمبياد ريو... فردية تغرق في سَيل هويات جماعية

السبت 2016/08/13
أولمبياد ريو... فردية تغرق في سَيل هويات جماعية
غابت عن الأجساد أوشام وموضة.. وحضر الحجاب وألوان الأعلام الوطنية
increase حجم الخط decrease
في المدينة التي تحتضن "الألعاب الأولمبيّة 2016"، لا يجتاز الباص المدينة إلا متباطئاً، فيحتاج ساعتين للعبور من طرفها إلى الطرف الآخر على بعد 50 كيلومتراً. وتلوك الأفواه أن الإعلانات عن تلك الدورة لم ينفّذ منها سوى قرابة 15%، ضمن فساد كبير رافقها. ومع وجود كثيف غير مألوف للشرطة والجيش، يقدّر أن حصة الفرد في ما تدفعه المدينة للقوات الأمنيّة، تفوق ما دفعه الفرد الأميركي والعراقي في ذروة حرب احتلال العراق في 2003، أيام جورش بوش الإبن. واستطراداً، بلغت كلفة تلك الألعاب لحظة انطلاقتها المشهدية، قرابة 12 مليار دولار، وهو مبلغ يضيء على جزء من أسباب النقاش السياسي البرازيلي الذي رافق الألعاب، والأرجح أنّه لن ينتهي مع اختتامها.

إنّه الهجين إنسانيّاً، ذاك الذي عقدت عليه الرهان مجموعة من شُرّاح التاريخ والاجتماع، لا تبدأ بأرنولد توينبي، ولم تنته عند إدوارد سعيد. "إن فكرة التعدّدية الثقافيّة أو الهجنة- التي تشكّل الأساس الحقيقي للهـويّة اليوم... تؤدّي إلى المشاركة... إلى التواريخ المشتركة والمتقاطعة" قال سعيد في "الإمبرياليّة والثقافة" (مع نعي من أساؤوا فهم "استشراق"ـه، فجعلوه هويّات منغلقة). وفي مؤلّفه الموسوعي "دراسة التاريخ"، قال توينبي: "أدرك غير الغربيّين من معاصرينا حقيقة أنّه بفضل توحيد العالم حاضراً، صار تاريخنا الماضي جزءاً أساسياً من تاريخهم... يتوجّب علينا نحن الغربيّين... أن ندرك... أن تاريخ جيراننا سيصبح جزءاً أساسيّاً من مستقبلنا كغربيّين".

نعم مجدّداً. إنّه الهجين في لقطة تكثّف أشد ما تمسكت به التغطيات الإعلاميّة والنقاشات المتشعبة عن "ريو 2016": الفريق الأول أولمبياً للاجئين. تجمّعوا تحت تمثال "المخلص" الفارد ذراعيه فوق مدينة "ريو"، وعلى غراره فردوا أيديهم، وعلى تفارق معه رفعوا أكفّهم بأصابع مفتوحة. وامتزجت في الصورة ألوان الجلد، أشكال الوجه، فتحات العيون وألوانها وغيرها؛ لكنها "اتّحدت" في إعطاء هويّة هجينة لجسد أولمبي عالمي، على رغم أنها عالميّة حزينة ومأساويّة، لكنها تجمع أشتاتاً بشرية وتضعها في عالمية من نوع ما بات يصعب تجاهله في العالم المعاصر.  

في الحوض الأولمبي، حضر جسد الهجين- اللاجئ عبر السبّاحة السوريّة يسرى مارديني التي لفتت إلى أن اللاجئين أشخاص طبيعيون، لم يرغبوا في وضعهم، بل أجبُروا عليه. بعبارة أخرى، كانت مارديني تردّد تقريباً مقولة شهيرة للمفكّر الإيطالي جورجيو أغامبين "كلنا لاجئ". وفي تلك الهجنة من المستطاع إيراد اسم لاعب الجمباز السويسري آندي يوسُف أيضاً. وفي معنىً رياضي بحت، بدت الألعاب الأولمبيّة كأنّها تكرّس ما نشاهده في ملاعب كرة القدم الأوروبيّة في القبول المتزايد للهويّات باختلاط الأجساد والأعراق فيها.

ولم يقتصر أمر الهجنة على ذلك المزيج. إذ كان الشكل (والاسم) الشرق آسيوي واضحاً في وجه لاعبة كرة الطاولة ping pong، الألمانية هان ينغ، وبدت منافساتها مع غريمات من سنغافورة وكوريا الجنوبيّة كأنها عبور وتحطيم أجساد نسويّة لحدود الدول، بل القارات.

وفي البلد الأبرز للهجين، وهو الولايات المتحدّة، يستحق فريق الجمباز للنساء تأملاً خاصاً. إذ تألق جسد الأفريقيّة- الأميركيّة سارة بايلز، كما لم تفعل أي أنثى ملوّنة في تلك الرياضة. وذكّر ذلك بالاقتحام الذي مثّله آرثر آش، أول أفريقي- أميركي يصبح بطلاً للعالم في التنس الأرضي. وكذلك ذكّرت بايلز بإنجاز نسوي إفريقي- أميركي في التنس، عبر الأختين سيرينا وفيلينوس ويليامز منذ مستهل القرن الـ21. وللمرّة الأولى في تاريخ ذلك الجسد الملوّن، منحت بايلز لبلادها، قبيل اختتام ولاية أول رئيس أفريقي- أميركي فيها، خمس ميداليات ذهبيّة، كما أعادت الجمباز النسوي إلى مسعاه للأداء الفني الراقي، وليس مجرد الفوز، على رغم أنها لم تصل إلى تلك الدرجة المذهلة (10/10) التي حققتها الرومانية ناديا كومانشي في دورة الألعاب في مونتريـال (1976).

الملابس: صراع! 
في المعنى عينه وعِبَر بُعد رمزي فيه،  جاء الإنجاز الذهبي للاعبة الجودو البرازيليّة رافاييلا سيلفا، من ضاحية الصفيح، "مدينة الرب" في ريو، ولم تكن لتمارس الرياضة أصلاً لولا مساعدة جمعية أهليّة لها ولعائلتها. إنّها ليست الصورة التقليدية للجودو، لعبة أباطرة الـ"ميجي" والممتزجة بصورة نخبوية اجتماعية متنوّعة عربياً وعالميّاً.

وحمل إنجاز الربّاعة المصريّة سارة أحمد، رمزية تخطي الجسد النسوي للحدود المفترضة، في رمزية متشابكة. إذ حصلت سارة أحمد لمصر (والعرب) على أول ميداليّة أولمبيّة نسائية في رفع الأثقال في تاريخ مشاركات مصر في تلك البطولة، الذي يمتد 104 أعوام، وهي المشاركة الأطول عربيّاً. وباعتلائها منصّة التتويج بميدالية برونزيّة، حطم جسدّها رمزيّاً حدوداً كثيرة. ففي المخيال العربي، ما زالت لعبة رفع الأثقال مرتبطة بالعضلات المفتولة والقوة الجسدية للجسد الذكوري. وأعادت لمصر ذكرى "طاقم الحديد" (كان كله من الرجال بالطبع) الذي تألّق أولمبيّاً في ثلاثينات القرن العشرين وأربعيناته. وكذلك التقط الإعلام العام بعمومه، أنها حقّقت انجازها مرتديّة حجاباً إسلاميّاً، ما حطّم صوراً نمطيّة تراكمت في الفترة الأخيرة، عن الإسلام والحجاب، كما عززت حضور ذلك البُعد في الجسد النسوي الأولمبي.

في الطرف المقابل، بل ربما المعاكس تماماً، استولت الهوية الجماعيّة على الجسد الفردي في الملابس الأولمبيّة. ومع استثناءات قليلة، بعضها مهمّ، فرض العلم الوطني- القومي ألوانه وشعاراته على الملابس الأولمبيّة، ما جعل البعض يتذكّر أن ذلك لم يكن مكرّساً في دورة الألعاب في لندن (2012) التي تألّقت فيها الذائقة الفرديّة والجماليّة في الملابس. بلغ أمر ذلك الاستيلاء أن زوجي الرجال في الغطس لإيطاليا، ارتديا المايوه المزركش بألوان العلم الإيطالي، ولعلها كانت محاولة مبتسرة للتميّز!

حتى قصّات الشعر بدت مذعنة للسائد، رجالاً ونساءً. وغاب الوشم عن معظم الأجساد، فبدت يد لاعب الجمباز الألماني بارن إيرستر المرشوشة بالأوشام كأنها "خروج عن النص"، وهو ملمح مغاير للحال في دورة لندن. وكذلك لم تحتّل ماركات الملابس (أديداس، ريبوك...) سوى مساحة صغيرة على تلك الملابس، على خلاف دورة لندن أيضاً.

لم يُكسر ذلك الاستيلاء على الهويّة الفرديّة، سوى مرّات قليلة. ومرّة اخرى، تألّقت الأجساد النسويّة في فريق الولايات المتحدة للجمباز في فرديّة اللباس، ولو نسبيّاً. وعلى رغم شيوع ارتداء ألوان العلم الأميركي ونجومة وخطوطه، ارتدت بعضهن ألواناً مغايرة من دون أن يكون ذلك هو "اللون البديل" للبلد عينه. وفي لقطة معبّرة، تنفست الذائقة الفرديّة بلون أحمر قانٍ على جسم لاعبة الجمباز الأميركيّة آللي رايزمان، وهو أمر لم يتكرّر كثيراً.

ألا يبدو صعود الهويات الجماعية بأنواعها أقرب إلى ذائقة اللحظة؟ ألا تعاني الفرديّة أمام ذلك السيل من هجمات تلك الهويات الجماعيّة، بأكثر مما كانه الأمر حتى زمن قريب؟

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها