السبت 2016/05/28

آخر تحديث: 13:03 (بيروت)

المقهى في أيامه الصعبة

السبت 2016/05/28
المقهى في أيامه الصعبة
increase حجم الخط decrease
1

اقترب رمضان. وبينما مقاهي المثقفين تجاهد لمسايرة المقاهي العادية، في خلق طقوس يومية تناسب الشهر، فالمقاهي العادية لا تقرر عمل طقس يومي، هي جزء من نسيجه. بوصف أدق، هي في حد ذاتها طقس، يأخذ شكلًا مختلفًا لمدة 30 يومًا.

2
تقول أسطورة، إن تمثال رمسيس الشهير، قبل نقله العام 1955 إلى جوار "محطة مصر" في وسط القاهرة، كان يرقد على ظهره، مقسما إلى عدة أجزاء، في مكانه الأول في قرية ميت رهينة، وأن نساء القرية اعتقدن أن التبول في "صرّته" يساعدهن على الحمل. لذلك عندما قرر جمال عبد الناصر ترميم التمثال، ونقله إلى ميدان المحطة، الذي سمّي في ما بعد بميدان رمسيس، حزن أهل القرية، وكان يوم نقله يومًا أسود، والنساء وقفن يودعنه بالبكاء، ويلوحن له وهو يبتعد، ويصرخن: "مع السلامة يا رمسيس".

القصة واحدة من قصص كثيرة، حكاها العم الراحل سعيد عبيد، ابن قرية ميت رهينة، وأحد وجوه الحياة الثقافية المحببة، لأصدقائه رواد مقهى "زهرة البستان" ذات ليلة، أثناء لعب "الطاولة" التي تقام لها مسابقة "رمضانية" منذ عدة سنوات، تنشغل بها مجموعة صغيرة من الذين وجدوا طريقة للتسلية، حيث المقهى في هذه الأيام يتخلص من وظيفته كمحطة عبور، واستراحة قصيرة قبل الذهاب إلى البار.

والبارات المصرية نوعان، واحد يغلق أبوابه تمامًا في رمضان، وآخر يفتح أبوابه من دون تقديم خمور، تنفيذًا للقانون المصري. غير أن بعضهم يعرف اثنين أو ثلاثة من البارات تتساهل مع القريبين من روادها.

3
ربما يظل مقهى "زهرة البستان" قادرًا على مقاومة الهجر الرمضاني، عبر مسابقته السنوية للطاولة، وعبر شهرته وسط الجمهور العادي، التي تستدعي زبائن من خارج الحياة الثقافية. بينما تجد "الجريون"، أحد أشهر أماكن المثقفين في العالم العربي، وأكثرها ازدحمًا، خاليًا من الناس. لا أفهم أسبابًا محددة لبقائه مفتوحًا في الأيام الرمضانية. القانون يسمح له، لكونه ليس مجرد بار، فهو مطعم ومقهى لديه إمكانية تقديم المشروبات العادية. غير أن مساحته الواسعة تعيش 30 يومًا خاوية، لأن زبونه لا يفضل النزول من البيت لشرب "العرقسوس"!

قبل رمضان بيوم أو اثنين، يطالب الرواد الدائمون، المسؤولين عن المكان، أن يستعدوا للشهر بالمشروبات الرمضانية المعروفة، في حماس غير مفهوم للحياة كمواطنين طبيعيين يتفاعلون مع طقوس رمضان القاهري، ثم لا يأتون!

حتى في الأيام المعروفة بالازدحام الشديد، أي الثلاثاء والخميس، ستجده خاليًا، باستثناء طاولة أو اثنتين، اكتفى الجالسون عليها بكوب شاي، أو عصير وشيشة، ما لا يشجع القائمين عليه لجلب المشروبات الرمضانية بكثرة، فهم يدركون أنها لن تباع.

4
تخرج من الجريون مفتقدًا روحه. تختصر الطريق، لتعبر ممرًّا فاصلًا بين شارعي قصر النيل وطلعت حرب، وترى مقهى "ريش" التاريخي بهدوئه النسبيّ، لم تضف الليالي الرمضانية عليه أي تغيير، إلا الامتناع عن تقديم البيرة. اعتادت عيناك رؤية المارة وهم ينظرون إليه باهتمام، وأشخاص يقفون أمامه لمشاهدة صور القاهرة التاريخية على زجاجه. تدلف إلى الممر المجاور له، والذي احتله الجزء الأكبر من "زهرة البستان"، يحاول "القهوجي" المشرف على هذا الجزء إقناعك بالجلوس هنا أفضل من الجلوس عند واجهة المقهى، لكنك تعرف أنه ليس أفضل ولا "يحزنون"، هي المنافسة بينه وبين زميله في اجتذاب كل منهم للزبائن في الجزء الخاص به، تعبر الممر، وتقابلك الواجهة، وثلاث أو أربع مناضد يجلس عليها بعض الأصدقاء، من المشاركين في الدورة الرمضانية للطاولة.

تتجاوز "الزهرة" بزخمها وضوضائها. تأخذك ساقاك إلى ميدان باب اللوق، لتكتشف أن مقهى "الحرية" من الأماكن التي أغلقت تمامًا، يبدو أن القائمين عليه قرروا ألا يقعوا في الفخ الذي وقع فيه "الجريون". تسير بمحاذاته لترى مقهى "سوق الحميدية" وجاره "الندوة الثقافية"، لا يختلفان كثيرًا عن أيامهما العادية.

العابرون على مقاهي وسط القاهرة، يقلّون تدريجيًا.
في الأيام الأولى من الشهر، يذهبون بحماسة المستشرقين من باب التغيير. 
أسبوع، ويكتشفون أن الحياة أصبحت لا تلائم وجودهم في ليل القاهرة لأيام عديدة مقبلة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها