الثلاثاء 2016/10/25

آخر تحديث: 13:11 (بيروت)

مدينتي7: برلين.. التيه الدافئ وأصوات القُبُلات

الثلاثاء 2016/10/25
increase حجم الخط decrease
كل أفكاري عنها أنها أكبر من أن تتعرف عليها أو تقطع شوارعها، أو تزداد ألفة مع أحيائها، لكنك تحتاج أن تعيش فيها لتعرفها، وليس كمجرد عابر سبيل، مقيم لمدة شهر في منحة إقامة أدبية، بل تحتاج أن تعايشها لمدة عام، ولن تملّها. هي المدينة الكوزموبوليتانية، المدينة العالمية التي لن تطردك. ذهبتُ إليها متهيباً، مشتاقاً لتاريخها، لأوجاعها، لمرارتها حينما تجرعت الانقسام، وحينما وطأها الطغاة، وحينما حولها جنون أحدهم إلى أسطورة، ثم حينما عانت واستشرت جراحها تحت القصف.. برلين، مدينة القصص وبطلة الأفلام التي صنعها السينمائيون عن معاناتها وعن قصصها "The Lives of Others و"Goodbye, Lenin" و"Downfall" و"A Woman in Berlin".

خمسة أفلام وأكثر شاهدتها قبل أن تطأ قدمي برلين في مثل هذا الشهر من العام الماضي. كنت مدعوا للإقامة شهراً في بيت الأدب LCB المطل على البحيرة "Wannsee" والواقع في قلب المنطقة الأرستقراطية من العاصمة الألمانية. شاهدت الأفلام حباً في المدينة، مهووساً بتاريخها الهائل، الذي يحوي الشموخ، والانكسار، المرارة، والفقد، الانتصار، والهزيمة، الذل الذي لاقته برلين على أيدي مدن أخرى، مثل موسكو، أو واشنطن، أو لندن، لا يمكن أن ينساه أهلها، لكنهم حولوا هذا الذل إلى طاقة هائلة للبناء، حافظوا خلالها على آثار الطغيان، احتفظوا بقطع من سور برلين الذي قسم المدينة عقوداً. لم يزل السور ماثلاً في مناطق "بوتسدام بلاتس" وكذلك في منطقة متحف "طوبوغرافية الرعب" المخصص للاحتفاظ بسجون الغستابو، والشرطة السرية "SS"، هناك أيضاً لم تزل الزنازين المرعبة ماثلة، والتي خصصها طغاة النازية لاستجواب معارضيهم، وخصومهم. والتاريخ يسخر من ضحاياه ومن أبطاله. لم تزل المدينة تحتفظ بأقوال هتلر المرعبة في ذلك المتحف الذي كان لا بد أن أزوره، هناك على لوحة عملاقة، تحمل وجه هتلر، كتب مصممو المتحف كلمة من كلماته، تقول: "نحن لن نستسلم.. ربما يتم تحطيمنا... لكننا سنسحب العالم معنا إلى أسفل".

حكايات هائلة أسمعها، وأدونها بشغف، عن نساء الحطام، نسوة برلين اللواتي نهضن من الحرب بملابس متعفرة ومغبرة، بعد انتهائها العام 1945، ليجدن الروس يعيثون في مدينتهن المحطمة المنهارة، يتعرضن للاغتصاب والإهانة، وينقلن أنقاض برلين طوبة طوبة، في صفوف طويلة، نساء الحطام حكاية من حكايات المدينة الهائلة، التي تتسع لمجلدات، وتجعلك تقتفي آثارها، وتدونها في حب.


وصلت إلى برلين قبل نحو عام، كانت أعباء المهاجرين على كتفي المدينة، أنجيلا ميركل تكافح وحزبها، خصومها. أصوات رفض المهاجرين تعلو، وتتجرأ، لكن برلين مع ذلك لم تزل مبهجة، صبحاً وليلاً. قالوا أنها مدينة عالمية، لكني سمعت كلمات عربية أكثر من أي لغة أخرى. أرجعت ذلك لكون الهجرات السورية صنعت توازناً جديداً في المدينة. في القطار الذي يقطع بي رحلة طويلة من محطة Wannsee" إلى محطة "إليكسندر بلاتس" قلب المدينة، سمعت رنة محمول على هيئة آذان صلاة، كان ذلك بالنسبة لي غريباً للغاية، شعرت أنني في مترو القاهرة. الشباب العربي كثير في برلين، وتجمعاته ملحوظة في الأماكن التي نجح فيها السوريون، وافتتحوا مطاعم ومحلات "دونر كباب" ومنها منطقة "هيرمان بلاتس" التي تشمل شارعي "كارل ماركس" و"زونين آلليه". هناك تناولت الغداء مع أحد أصدقائي الناشرين في مطعم سوري، كل العاملين فيه من المهاجرين الذين جاؤوا بعد 2011. بدأ الوجود السوري في المدينة ينافس الوجود التركي. بعد تناولنا وجبة العشاء في المطعم، خرجنا نتمشي في الشارع أنا والصديق، ونتحدث عن المذابح التي يرتكبها الأسد في سوريا، فظن أحد الماشين أننا نتحدث عن الأسد الأب، وقطع حديثنا، بحكاية طويلة عن مجزرة حماة، لا أعلم ما الذي دعاه أن يحكي الحكاية، لكنها المجازر.. لا ينساها شهودها بسهولة، يقول الرجل إنه كان طفلاً، حينما غادر وأسرته حماة، نجا وأسرته مصادفة من المذبحة التي ارتكبها حافظ الأب، يقول عبارته الأخيرة قبل أن نفترق: لكننا لا نعرف إلى متى سننجو.. ومتى سنعود؟

برلين مدينة ممتلئة، باستمرار هناك زحام، كنت أظن أنني الوحيد الذي سيتسكع طيلة الشهر، بينما المارة من حولي يحسدونني على فترة الإجازة والتفرغ للكتابة. لكني كنت مخطئاً، فأينما أوليت وجهي، وجدت الناس، القطارات ممتلئة باستمرار، المدينة كبيرة لدرجة تمنحك أحاسيس التيه. كانت مدينة موحدة، فصارت مدينتين، ونمت لكل منهما منطقة مركزية، وشوارع هائلة، طويلة وممتدة، لهذا حينما وقفت مع صديقي سمير جريس فوق سطح مبنى البرلمان "بندستاغ" حيث يعمل مترجماً، هالني اتساع المدينة.. كانت شرقية وغربية، وصارت الآن مدينة عظمى، بها مواصلات هائلة متعددة، مترو الأنفاق، والقطارات العديدة، السريع منها، وذلك الذي يتوقف في كل محطة، بالإضافة إلى الترام، وعربات الباص. كان المدهش أن يوقفني بعض أبنائها، ليسألني.. أين الاتجاه إلي محطة "فريدريش شتراسي" أو يسألني آخر عما يجب أن يركبه إذا كان متوجها إلى "كوتبساتور". صرت بعد أسبوعين محترفا في تتبع تقاطعات المترو "الأوبان 8" و"الأوبان 2" لمعرفة من أي محطة يجب أن أغادر لأصل مثلاً إلى الحي الحكومي، أو لأمر عبر بوابة "براندنبورج " حيث احتفل الناس بالوحدة، وانهيار سور برلين في نوفمبر 1989.


في برلين سمعت للمرة الأولى، أصوات القٌبل المتبادلة في الصباح، أو في الظهيرة، أو بينما الشمس تنحدر نحو المغيب. مدينة حرة، يستمتع العاشقون فيها بتبادل القبلات، توقفت عن مطاردة الأحباء بنظراتي المتلصصة، متلذذاً بسماع صوت القبلة، تتهاوى أصوات القبلات على أذني، فترتسم على ملامحي بسمات. تعايشت مع غربة اللغة، الغربة في لساني، وليست في ملامحي، أو في مشاعري تجاه المدينة، بل لساني هو الغريب، وأذني كذلك التي لا تفهم الكلمات الألمانية المتلاطمة، المضطربة، الموسيقية مع ذلك. حينما يطلب فجأة قائد القطار إخلاء عرباته، معلناً أن هناك عطلاً، فوجئتُ بالناس ينهضون جميعاً للمغادرة، بينما أنا الوحيد المستغرق في تأملاته، يلوح لي شرطي، ويطلب مني أن أستقل قطاراً آخر. هذه هي الغربة، حينما أعجز عن تلقي الرسائل العرضية، القطارات كانت مزودة برسائل إنكليزية لإخطار الركاب بأسماء المحطات، لكن وقتما يكون هناك عارض، يضطر سائق القطار إلى التحدث بالألمانية طالباً من ركابه المغادرة، لأنه لن يكمل الرحلة لسبب ما. هنا كنت أشعر فجأة بالتيه، لكن المدينة تمنحك مع ذلك دفئها. لم أشعر أبدا أني ضائع في برلين. هي مدينة لا تنام، مثلها مثل القاهرة، ولعل هذا ما جعلها مدينة مختلفة عن فرانكفورت أو عن غيرها من المدن الألمانية. يقولون عن برلين: إنها لا تمثل ألمانيا.. هي مدينة مختلفة.. أفقر الولايات الألمانية اقتصادياً.. وأغناها سياحياً، ومع ذلك هي قبلة الفنانين، والعشاق.


في منطقة "تشيك بوينت شارلي" التي اشتهرت بكونها بوابة الشرق والغرب، تحولت الديكتاتورية السوفياتية التي عانت منها المدينة إلى مجرد بزات معلقة لهواة اقتناء الهدايا التذكارية. هذا ما تبقى من السور الحديدي الصارم الذي كان يقسم وسط المدينة، عربات قديمة الطراز تعبر عن نمط الحياة التي عاشها الألمان في برلين الشرقية، ومتحف صور للشهداء الذين حاولوا اجتياز السور. هنا أتذكر فوراً أبيات سركون بولص: لا عن الجدار الذي يبيعون بقاياه في "تشيك بوينت تشارلي" حيث كانوا يتبادلون الجواسيس وأسرار الشرق والغرب بالأمس.

تعيش برلين في ذاكرتي، على الرغم من مرور عام على إقامتي فيها لمدة شهر، تعيش منزوية في ركن من عقلي، وكلما شعرت أني قد أنساها، أسارع إلى ملف صُورها، وأطالعها كي تبقى حُلمي الذي لا أريد له أن ينتهي. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها