الثلاثاء 2016/10/25

آخر تحديث: 12:59 (بيروت)

خليّا تمطِر كِبَب

الثلاثاء 2016/10/25
خليّا تمطِر كِبَب
رأيت كبب النار فوق سماء حلب، ومخترعها معروف
increase حجم الخط decrease
اتصل بي صديق قديم من أيام ملتقى جامعة حلب الأدبي، محتجاً، مستنكراً، وقال: انظر إلى صاحبك الناشط ضبّة، قد صدّر صفحته الزرقاء بالكبّة النيّئة وزعم أنها طعام كردي، وأردف: غيرتم الخرائط وأسماء المدن والقرى وجعلتم آدم وإبراهيم ونوح عليهم السلام أكرادا، ثخنتوها، بل أثخنتموها.

فقلت: ما سبب احتجاجك يا خاي؟ الحرب هذه الأيام هي حرب الرز وليست حرب برغل، فالكبّة النيّة ليست قارة أميركا التي اكتشفها ابن سيد القرطبي، وكان أبحر من الشاطئ الغربي للأندلس في عام 889 م وسار في اتجاه مستقيم حتى وصل إلى شاطئ كبير، رجع منه محملاً بكنوز كثيرة كما ورد في كتاب "مروج الذهب" للمسعودي. ونسبت إلى كريستوف كولومبس ظلما وعدوانا؟ تصور أميركا اسمها: الولايات المتحدة القرطبية؟

أفدته علما بأن الأكراد المعاصرين السائدين  في الجزيرة، لا يعترفون سوى بنبوة زرادشت، هو النبي الأوحد، يريدون نبياً من جنسهم. ولو لم تكن له من النبوة سوى نبوة مسيلمة الكذاب. ورويت له حكاية من رواية "السلالم الرملية" لسليم بركات، وفيها ثلة مسافرين يذهبون باحثين عن نبي، ويأكلون في الطريق سنام ناقتهم وهي حية! فضحك صاحبي.

وأخبرت صاحبي أنه يحق له الغيرة على كبّة حلب التي تقصف سبعة أيام في الأسبوع من غير عطلة، الكبّة هي حلبية المنشأ والصناعة، وهذا ما يميل إليه العلامة الموسوعي خير الدين الأسدي في موسوعة حلب المقارنة. 

وذكرته بصناعة البرغل العريقة في الجزيرة السورية التي تسمى في هذه الأيام بروج آفا، فبعد موسم الحصاد تنصب "النقريات" في الشوارع، ويصبّ في كل نقرة كيسان من القمح، فيسلقان، ولأن المنطقة بلا أشجار، فهي بلا حطب، فتوقد النيران بعجلات السيارات، فتتلوث سماء البلدات والقرى بالدخان السافر الأسود القمطرير، والنقرة اسم وعاء عربي كبير، عرفته أول مرة في قصة عبد الله بن حذافة السهمي مع ملك الروم التي وردت في كثير من المصادر العربية، وفي قصة ماشطة فرعون التي وردت في "المنتظم في أخبار الملوك والأمم"، وكلاهما عبد الله والماشطة تعرضا لخطر السلق في النقرة على الإيمان بالله الواحد الأحد، كما تسلق حلب الآن، ونجا عبد الله بن حذافة السهمي، وسلقت الماشطة سلقاً. والبرغل كان معظم طعام أهل الجزيرة إلى أن عرفوا الرز الأبيض بفضل الحركة التصحيحية المباركة التي تنسب في سورية إليها كل الفضائل، سوى فضيلة قضاء الحاجة. العز للرز والبرغل شانق حاله. والترك قوم يعزّون البرغل مثل الشعب السوري. وفي إسطنبول تجد في الشارع الواحد محلا أو اثنين يبيعان الكفتة، وهو اسم الكبّة النيّة في التركية، والمفارقة هي أنهم يدهنونها بخبز رقيق وهو خبز، فكلاهما قمح، ويأكله الطلاب غالبا!

قلت: اطمئن يا أخا حلب الكونفيدرالي، لن ينجح الكرد في سرقة الكبّة النيّة كما نجح اليهود في سرقة الفلافل، فهم يسمونها بلوعية، فلم تكن لهم براعة هذه الأيام في إنشاء الأسماء، واسمها جاء من سهولة بلعها من غير مضغ، وهو نوع من الابتكار أيضا، إذ لم يركنوا إلى اسمها العربي وهو الكبّة. وأزيدك من الطعام كبّة نيّة، أنكم يا معشر أهل حلب بارعون في شؤون الثقافة والحضارة ولكم ثلاثون نوعاً من الكبّة، وإن الكرد أضافوا نوعاً من الكبّة لا تعرفونه هي الكبّة المسلوقة وهم لا يأكلون سواها، إلا في ما ندر.

قال: بل ثمانية وخمسين نوعاً من الكبّة كما في ورد موسوعة خير الدين الأسدي، والكبّة المسلوقة هي السادسة ترتيباً بين أنواعها، هذه الكبّة هي كبّة العمال، وسهلة الصناعة.

وقال: جاء في الأخبار أن الملك الآشوري ناصر بال الثاني قدّم لضيوفه طعاما يشبه الكبّة، وﺑﻠـﻎ ﻋـﺪﺩﻫﻢ حوالى سبعة آلاف شخص، وكانت بمناسبة انتهاء بناء قصره في النمرود.

قلت ضاحكا: آشور ناصر ملكٌ كرديٌ. 
فضحك وقال: نعم هو كردي وبوتين أيضا كردي وكذلك أوباما وكوشنير.
وقال: قلنا في الكبّة أشعارا، اسمع: 
هاتها كبّة هبر بسطت بالصواني
بعد ضرب وامتهان 
يالها حمراء بالسمن انقلى
وجهها بالفرن آنا بعد آن.

قلت: أطربتني وفتحت شهيتي يا خاي
قال: جاءتنا من بيت النار... كبّة تجلو الأكدار
والسمن منها مدرار... يطفو فوق الصواني

قلت: الناس أذواق، وكان الشهيد سيد قطب في رحلة أميركا التي غيرت معتقداته، وحوّلته من ناقد مجهول إلى رمز فكري في الثقافة الإسلامية، قد استنكر بشدة ثقافة الأميركيين الطعامية، كان يستغرب أنهم يرشّون على السلطة السكر!

قال لي صاحبي: "الأمريكان" يعرفون السَلَطَة أما أنتم فتجهلونها، زرت أربيل ودهوك وأكلت في مطاعمها ولم أجد السلطة. ومرة اشتريت سندويشة شاورما فأعدتها لإصلاح حال اللحم الفحل في طية الخبز وإيناسه بأنوثة الخضار، فأضاف إليه قرص فلافل!

تذكرت طعاماً ابتكره التواتسة السوريين، واسمه الشعيفورة وهي شكنليش مفروم مخلوط بالبصل والزيت. ويرى الهوتو السوريون أن مائدة التوتسي فقيرة، مثل طعام الكرد، فالمائدة ثقافة وعلامة حضارة، لكن سادتهم بارعون في القتل والتعذيب والحق يقال.

وانشدت صديقي الكونفدرالي، قول شاعر أم المحاشي والكبب، في قصيدته الفاحشة الساخرة، والتي قيل إنها كانت سبباً في قتله: ما أَنصَفَ القَومُ ضَبَّه، وَأُمَّهُ الطُرطُبَّه.
وقال صاحبي: وإِنَّما قُلتُ ما قُلتُ رَحمَةً لا مَحَبَّه
فقلت: وَما عَلَيكَ مِنَ الغَدرِ إِنَّما هُي كبَّه

الطعام علامة حضارة، وكان مجلس العموم البريطاني احتفى بالمواطنة الشامية رزان الصوص التي أسست مشروعاً لإنتاج "جبنة الحلوم"، حصل أخيراً على جائزة مؤسسة "بي بي سي" الخاصة بـ"الطعام الجيد" وفازت بالجائزة البرونزية عن فئة الأجبان، من بين حوالى 2700 عينة جبنة من أنحاء العالم. وهي جبنة تلعب الجمباز وتغرد بين الأسنان وتنشد الألحان فوق اللسان.

ورأيت ناشطين يسخرون من التركي مبتكر سيخ الشاورما، ويقارنونه مع أديسون، وهي مقارنة عنصرية، وكان من الأولى للناشط العنصري أن يقارنه بمخترع من جنسه، فالمصباح نزل في بلادنا من السماء، في كلمة إقرأ القرآنية. وذكرت له الحزورة الشهيرة التي تقول إن ثلاثة على الساحل، أصدقاء، كانت لأحدهم مرآة سحرية، فنظر فيها فوجد أميرة البلاد على العدوة الأخرى من الشاطئ نائمة ولا تستيقظ، وقد أعيت الأطباء، فكيف السبيل إلى إيقاظها؟ فقال الثاني عندي سفينة فعبر بهم البحر إلى البلاد، وقال الثالث: عندي دواؤها وكان معه كبّة نية فأطعمها فاستفاقت، فلمن تكون الجائزة يا صاحبي؟ لصاحب الكبّة أم لصاحب المرآة أم لصاحب السفينة؟
قال صاحبي الكونفدرالي: كبّة نية؟ بلوعية يعني؟

ضحكت: نعم.. الكبة في الحكاية الأصلية ليمون، فأعذرني على النحل والسرقة والتزوير، الكرد مصابون بهذه اللوثة.

قال: لا عليك.. يفوز بها المتحالف مع دول تطبخ القنابل النووية بدلا من الكبّة..
ثم سأل عن جائزة إيقاظ الأميرة النائمة؟
 فقلت: هي الأميرة 
فقال: حيا الله..

ورويت قصة جاري الألماني الذي أكل على مائدتي كبّة مشوية إلى يوم الدين، ومقلية إلى يوم يبعثون، ونيّة مثل الشمس في الفجر، فأخرج من جيبه ورقة من فئة العشرين يورو. وقال: اكتب لي وصفة هذا الطعام السحرية، ولك أجرها وأجر من أكلها إلى يوم القيامة.

فقلت: اعد نقودك يا أخا دويتش لاند، وردّها على جوعة ميركل، فلن تعرف زوجتك صناعتها، تعال في الأسبوع المقبل مع صباح يوم العطلة التالي، وستعلمك زوجتي صناعتها، وأنبهك أنها تحتاج إلى دوام يوم كامل.

قال صاحبي: حقا، الكبّة جبهة حرب، ويقول المثل: عند دقّ الكبّة الصبايا بتتخبا
سألت صاحبي: من أيش يا خيو؟
قال: من البراميل يا خاي
سألني صاحبي: وماذا يسمي الكرد الكبّة المسلوقة؟
قلت: يسمونها "كتلك".
قال ضاحكا: اسم عربي، من الكتلة، لم تخترعوا لها اسماً كما فعلتم لمنبج والقامشلية وعين العرب؟
قلت: التسميات من أعراض سايكس بيكو يا صاحبي التي ظهرت على الكرد بعد قرن كامل، سرق سايكس وبيكو من الكرد وطناً فسرق الكرد أسماء أطعمة وأمكنة، وهم يضيفون "الواو" أو "واوين" إلى اسم "الكرد" فصار اسمهم :"الكورد"، وأحيانا يصير مثل نغمة الاكورديون: الكووووورد، فازرعها بذقني وسأردها لك على موسم الحصاد كبّة مسلوقة أو نية.
قال: المثل الحلبي يقول: خليّا تمطر كبب.. أسمعت بمطر الكبّة؟
قلت: رأيت كبب النار فوق سماء حلب، ومخترعها معروف وهو متحدر من ثقافة الشعيفورة.
قال: غلبت القرادحة أعظم وأعرق عاصمتين على ظهر الأرض، وقهرت الشيعفورة ثمانية وخمسين نوعاً من الكبّة يا صاحبي.

وانقطع التوصيل بعدما أدرك شهرزاد البرميل. 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب