الجمعة 2016/01/08

آخر تحديث: 13:23 (بيروت)

"بالنسبة لبكرا شو؟"... الإخراج المسرحي المخفي

الجمعة 2016/01/08
increase حجم الخط decrease
منذ مسرحية "نزل السرور"، ثاني مسرحيات زياد الرحباني العام 1974، رسخ الشاب يومها كحالة خاصة في المشهد المسرحي اللبناني، مقدما تجربة مميزة في "بالنسبة لبكرا شو"(1978). لكن موقع الرحباني في هذا المشهد بدا دائماً في مكان ملتبس لأسباب عديدة أحدها تنقله بين أنماط فنية، جعلته لاعباً في أكثر من حقل فني في الوقت نفسه.

ستعرض "بالنسبة لبكرا شو" للمرة الأولى بالصورة وفي صالات السينما اللبنانية (بعدما سمعها أكثر من جيل عبر الإذاعة أو من تسجيلات صوتية)، ابتداء من 15 كانون الثاني الجاري، بمبادرة من شركة "M-media"، أي بعد 37 عاماً من تقديمها على خشبة المسرح. ويتبادر الى الأذهان دائماً السؤال عينه، عن السبب الذي دفع الرحباني الى الإمتناع عن عرض مجموعة المسرحيات التي نفذت بين العامين 1974 و1983 واقتصار نشرها فقط على التسجيل صوتي. وتتقاسم هذه المجموعة من الأعمال مميزات متشابهة تختلف عن عمله الأول "سهرية"، وأعماله التسعينية "لولا فسحة أمل" و"بخصوص الكرامة والشعب العنيد"، ما يقدم خيوطاً عن أسباب امتناعه عن عرضها الى الآن.

في مقاله "زياد الرحباني، شخصية فريدة لرجل المسرح في لبنان"(*)، يقدم آرنو شابرول في قسم خاص من مقالته بعض اسباب تهميش الرحباني من قبل "الطليعة" المسرحية في لبنان، التي استندت في ولادة حركتها خلال ستينات القرن الماضي على شخصية المخرج. تأثرت تلك الحركة يومها بمجموعة من النصوص والنظريات المرتبطة بتحولات المسرح الأوروبي، كما أنها ولعدد من العوامل لم تُعلِ من شأن النص المسرحي والمؤلف الذي استبعد الى الخلفية ليحل مكانه الإخراج المسرحي والمخرج.


افترق الرحباني عن كل هذا، وقرر الركون الى اسلوب اخراجي بسيط وبدائي لا يتبع اي مرجع فني محدد، وقد اكد ذلك حديثه الدائم عن افتقاره الى اي معرفة نظرية حول المسرح واقتصار معرفته فقط بعمل واحد لستانسلافسكي وبمجموعة مقالات صحافية لبريخت. كما أن تأكيد الرحباني على أولوية النص المسرحي، واصفاً إخراجه المسرحي بأنه "تنفيذ حرفي للمعاني" واحترامه، بحسب مقال شابرول "لمبادئ الكتابة الدرامية الكلاسيكية المرتبطة بخشبة المسرح على الطريقة الإيطالية كقاعدة الوحدات الثلاثة ... التي اعتبرت (من قبل بعض أعضاء الحركة المسرحية الحديثة في لبنان) مبادئ رجعية وبرجوازية تثير سلبية الجمهور"، وهذا عزز بالتالي من وضعه الملتبس ضد تيار الحركة المسرحية في تلك الفترة.

وبالإضافة لارتكاز أعمال الرحباني تلك على النص المسرحي بشكل أساسي وعدم اعلائه من شأن الإخراج، فقد امتنع كذلك عن استخدام ممثلين محترفين، وكرس بالتالي من رفضه لنظام الإنتاج المستند على نجومية الممثل. لكنه في الوقت نفسه بقي نجماً "طاغياً" على أعماله، لكن من دون أن يبدو مستفيدا من تلك النجومية على صعيد الظهور الإعلامي مثلاً. وكانت نجوميته نتاج عوامل عديدة، ليس أقلها أنه أبن العائلة الرحبانية وفيروز، ثم برامجه الإذاعية التي لاقت رواجاً كبيراً في تلك الفترة مثل "بعدنا طيبين ... قولوا الله" مع جان شمعون، وقد ساهمت هذه البرامج بالترويج لأعماله المسرحية، وكانت صادمة في عز التدخل السوري في لبنان وفي عز صراع "الحركة الوطنية" اليسارية و"الجبهة اللبنانية" اليمينية. هكذا استطاع مسرح زياد الرحباني جذب فئات متعددة من الجمهور، منهم  جمهوره الإذاعي الأقرب مثلا الى جمهور مسرح شوشو في ذلك الوقت. على أنه وبفعل آليات التكريس الناتج عن إلتزامه السياسي استطاع اكتساب اعتراف فئات واسعة. إلى جانب ارتكازه على نص بلغة خاصة قائمة على اللعب اللفظي وشخصية السكرجي والمتمرد، سواء على لغة الرحبانة او لغة اليسار، وهذا ما اجتذب فئات أكثر نخبوية قابلت أعماله منذ "نزل السرور" باحتفاء واسع خاصة من النقاد في الصحف المحلية.

وقد مر الرحباني بثلاث مراحل من خلال إنتاجه المسرحي. المرحلة الأولى تأثرت بشكل رئيسي بإنتاج الأخوين رحباني، وكانت حصيلتها مسرحية واحدة هي "سهرية" العام 1973، وقد نقلت هذه المسرحية على الصورة وتقع في مكان قريب جدا من إنتاج الأخوين رحباني. اما المرحلة الثانية فبدأت مع مسرحية "نزل السرور" ذات الطابع السياسي، وتنتهي بـ"شي فاشل" العام 1983. تشترك مسرحيات هذه المرحلة في أنها أتت في خضم الحرب الأهلية، وفي مرحلة كان الفنان فيها ملتزماً الى حد ما سياسياً/شيوعياً، وكلها تشترك في نمط إخراجي مبسط.

لم تعرض هذه المسرحيات على الشاشات. وتعتبر "بالنسبة لبكرا شو؟" أول مسرحية منها ستعرض من إنتاج إيلي خوري. أما المرحلة الثالثة فتتألف من عملين هما "بخصوص الكرامة والشعب العنيد" و"لولا فسحة أمل"، اللتين عرضتهما المؤسسة اللبنانية للارسال، وتختلف المسرحيتان بشكل كبير عن مسرحيات الرحباني الأخرى، اذ تخلى فيهما عن أسلوبه الإخراجي الواقعي محاولاً أخذ مسرحه الى أمكنة جديدة.


ويعتبر عرض "بالنسبة لبكرا شو" مناسبة لإعادة تقييم أسلوب الرحباني الإخراجي في تلك الفترة، والذي بدا انه يخفيه كل هذا الزمن. وليس من المغامرة الإفتراض بأن الخلل في الإعتراف الذي واجه الشاب يومها في الأوساط المسرحية، قد لعب دوراً في امتناعه عن عرض مسرحياته على الشاشة. فقد قللت هذه الأوساط من امكانيات الرحباني الإخراجية وحتى من قدرته على استخدام ممثلين غير محترفين على خشبة المسرح. هذا ما أخذه ربما الى التشكيك في أسلوبه الإخراجي، وأدى بالتالي إلى امتناعه عن نقل هذه الأعمال الى الشاشات والإكتفاء بتوزيع نسخ صوتية منها. يعزز هذا الإفتراض نقل عملَيه الأخيرين الى الشاشات بعكس الأعمال السابقة، ويختلف "بخصوص الكرامة" و"لولا فسحة" بتقديمها نقلة نوعية في أسلوبه الإخراجي، انعكست ابتكارية عالية في الديكور والـMise en Scene واللباس، ما يجعلها أكثر افتراقاً عن أعماله السابقة، ويعزز بالتالي من فرضية "الخلل في الإعتراف" ويجعلها أكثر تصديقاً.

مسرحية "بالنسبة لبكرا شو" التي باتت راسخة في الذاكرة الشبابية واللبنانية، تتحدث عن الثنائي زكريا (زياد الرحباني) وثريا (نبيلة زيتونة)، اللذين يتركان الريف للعمل في حانة في شارع الحمراء لتحسين أوضاعهم المعيشية. لكن الثنائي يصطدمان بالغلاء المعيشي الفاحش وصعوبة البقاء. يؤدي أغاني المسرحية الفنان الراحل جوزيف صقر، منها"إسمع يا رضا"، "البوسطة"، و"عايشة وحدا بلاك".

 
(*) مقالة شابرول من كتاب "مسارات جمالية ومشاهد ثقافية في الشرق الأدنى"
      - دار الفرات
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها