الخميس 2016/01/21

آخر تحديث: 13:29 (بيروت)

ذاكرة الأغاني: كارمينا بورانا برائحة "أولد سبايس"

الخميس 2016/01/21
ذاكرة الأغاني: كارمينا بورانا برائحة "أولد سبايس"
موسيقى بيكاسو
increase حجم الخط decrease
بينما تجري الحياة، ثمة أغنية ما تدور في الخلفية
بينما تدور أغنية ما، ثمة حياة تجري في الخلفية".
عمر طاهر، من كتابه الأحدث "إذاعة الأغاني ـ الكرمة للنشر". كتاب جميل ومسلٍ، قرأته باستمتاع. باتت الإشارة له أمانة في معرض الكتابة عن ذاكرة الأغاني، عنوان هذا الملف، حيث سبق وتناول الفكرة نفسها بشكل أو بآخر، في 21 نصًا.

1
النشأة في بيت تملأه الموسيقى الكلاسيك، وتربية الأذن على سيمفونيات من قبيل "كارمينا بورانا" و"شهرزاد"، نشأة لم تحُل بيني وبين التأثر بما تأثر به أبناء الجيل من موسيقى وأغان. لم تضعني في مكان المتأففين مما أطلقوا عليه "الأغنية الشبابية"، والذي تطور سريعًا إلى "الأغنية الهابطة"، المصطلح الذي انتشر في أعقاب النجاح المدوي لـ"لولاكي"، الأغنية الناجحة الوحيدة لعلي حميدة.

كانت "لولاكي" سُلّمة بين جيلين. الأول ينهي مراهقته داخلًا إلى سنوات الشباب، محملًا بأغاني عمر فتحي ومدحت صالح وعلي الحجار، والثاني ينهي طفولته وبعضاً من صباه محملًا بذكريات طفولة صنعتها الأسماء السابقة.

الأذكياء فقط من مطربي الجيل الأول، استطاعوا ألا يتحولوا إلى مجرد ذكريات حلوة.
يكبرني خالي بخمسة عشر عامًا، أناديه باسمه دوناً عن باقي الأخوال، وأتوهم صداقة متكافئة ترضي رغبة في الشعور بأنني كبرت وبت أستطيع اقامة مع فتاة، أو اختيار ما يلائمني من ملابس. سنتان أو ثلاث تفصل بيني وبين التدخين والمجاهرة به أمام الجميع، والخروج وحدي من دون الكبار.


الذهاب لبيت جدي، حيث يقيم خالي، يعني الجلوس معه في غرفته وسماع الأغاني التي يرددها زملاء المدرسة، والناس في وسائل المواصلات، والخارجة من مكبرات الصوت عند بائع الشرائط على الناصية. في تلك الزيارة نظرت إلى المنضدة التي عليها جهاز التسجيل، وطلبت منه تشغيل "لولاكي"، كنت متأكدًا من أنه اشترى الشريط ومن دون أن أسأل. مدخل الأغنية من دون موسيقى، كتمت ضحكتي كأن الأمر عادي، وعقدت حاجبيّ متصنعًا التركيز والاستغراق في الطرب، ولمحت أمي تبتسم.

عندما أصدر علي حميدة شريطه الثاني، كان خالي كبر ثلاث أو أربع سنوات، وارتبط رسميًا بإحداهن، سألته:

ـ إيه رأيك في شريط علي حميدة الجديد؟

قال:
ـ مابسمعش الأغاني التافهه دي!

2
لسنوات، تصورت أن الاسطوانة التي تدور في بيتنا لتلك الموسيقى الأجنبية الشهيرة، هي تسجيل صوتي لموسيقى إعلان "أولد سبايس"، ويعرضه التلفزيون بين حين وآخر. ذلك العطر الرجال الجميل، الذي يضعه أبي بعد الحلاقة. احتلّت، ولا تزال، مساحة كبير من القلب. أسمعها فأتذكر الرائحة فورًا. ولكن أي شركة إعلانات تلك التي تستطيع المجيء بمن يؤلف هذه المقطوعة؟ أتساءل، لأعرف أن الاسطوانة ليست تسجيلًا لإعلان العطر. هي اسطوانة "كارمينا بورانا" كاملة، الأشهَر لكارل أورف الأشهر. وأنها قُدمت للمرة الأولى العام 1937، مستندة إلى 24 قصيدة وُجدت في القرون الوسطى، وأن الموضوع أكبر وأعمق بكثير من إعلان "أولد سبايس". أتساءل، أيضا، عن تفسير الجيران، في حيّنا الريفيّ الذي زحف عليه الحضر، لما كانوا يسمعونه خارجا من شقتنا.


الأمر نفسه حدث مع موسيقى "شهرزاد" الشهيرة، للروسي نيكولاي ريمسكي كورساكوف، والتي ظللت سنوات متصورًا أنها مأخوذة عن إشارة مسلسل ألف ليلة وليلة، الذي غنّته سميرة سعيد، وقام ببطولته كل من حسين فهمي ونجلاء فتحي!

3
في الصفّ الثاني من المرحلة الإعدادية، انتابت الجميع صدمة رسوبي في الامتحان للمرة الأولى.
لن يأتي لأبي وأمي قلب لمواصلة العقاب بحرماني من رحلى المصيف. كانت الزيارة الأولى إلى الإسكندرية. أعمامي وعمّاتي سبقونا إلى شقّة تطل على شاطئ ميامي، بينما رأى أبي أن ننزل في فندق يطلّ على شاطئ جليم. في الطريق سألت أبي إن كان غيّر بعض الجنيهات بالعملة السكندرية. لم أفهم لماذا انفجر في الضحك!

في الصباح نستقل سيارة أجرة إلى ميامي حيث العائلة. السيارات التي استقليناها، بلا استثناء، تنطلق داخلها أغنية واحدة في مقاطعها المختلفة، لا أعرف اسم مطربها. على الشاطئ يتمشّى الشباب في مجموعات، وبين كل مجموعة يحمل أحدهم جهاز تسجيلٍ على كتفه، لتخرج منه الأغنية نفسها، الجميع يغني من حولك: "يا واد يا اسكندراني". عندما عدنا إلى القاهرة، لم أتصور أنني سأسمع ثانية عن المطرب الشاب مصطفى قمر.

في الفترة الزمنية نفسها، يختار المخرج خيري بشارة والكاتب محمد المنسي قنديل اسم الحيّ الذي سكنّاه في زيارتنا الأولى للإسكندرية، ليشكّل ما سيصبح، بعد سنوات، نوستالجيا جديدة، بكل أغانيه التي كتبها مدحت العدل ولحنها بطل الفيلم، عمرو دياب، وسُمي الفيلم باسم إحداها، "آيس كريم في جليم". الفيلم تدور أغلب أحداثه في مدينة القاهرة!

عندما عُدنا من الإسكندرية، اشتريت نسخة مزورة من شريط مصطفى قمر، وأحببت أكثر أغنية "البيانولا". الآن أود لو أتذكر تلك الأغنية التي كان ينهيها مصطفى قمر بصفّارة من فمه، وتشبه الصفّارة التي كان يطلقها عمّي من شقته بالدور الأرضي، فنسمعها عبر نافذة المطبخ بالدور الثالث، ليعرفنا أنه مستيقظ في ذلك الوقت المتأخر من الليل. كان شيئًا من الونس.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها