الثلاثاء 2016/01/19

آخر تحديث: 14:04 (بيروت)

لعنة الرئاسة اللبنانية

الثلاثاء 2016/01/19
لعنة الرئاسة اللبنانية
increase حجم الخط decrease
كمواطن لبناني، منذ أكثر من أربعين عاماً، وكقارئ للكتب والصحف، أشعر أن السباق الرئاسي في لبنان أشبه باللعنة المستأنفة، (سأتكلم الآن عن رئاسة الجمهورية تحديداً وفي مرات لاحقة عن الرئاسات الأخرى). 

فأنا المواطن اللبناني بدأ وعيي الطفولي على الرصاص الكثيف الذي اطلق ابتهاجاً يوم اغتيل الرئيس بشير الجميل، لم أكن أعرف من هو بشير الجميل من قبل، لكني من غزارة النيران فهمت أنه الرئيس اللبناني "اليميني" كما قال لي بعض اليساريين، الذي انتخب على ايقاع الدبابات، وكانت القوى المؤيدة لسوريا سعيدة باغتياله. لم يكن ذلك المشهد يعني لي شيئاً في طفولتي، لكن منذ بدأت أكتب في الصحف، تكرس في ذهني كنموذج للمشهد النكدي المليء بالحقد والضغينة في لبنان، هو الصورة الدموية التي تختصر المناخ الرئاسي والطوائفي اللبناني، سواء طريقة انتخاب الجميل، او طريقة اغتياله أو سائر المحطات الرئاسية الاخرى...

"طويت" مرحلة طفولتي على اغتيال الجميل، وافتتحت مرحلة مراهقتي على خروج أمين الجميل من قصر بعبدا وتسليمه كرسي القصر للجنرال ميشال عون، الذي بدأ قصفه المدفعي ذات اليمين وذات الشمال بحثاً عن تكريس الكرسي. كان الصراع على الكراسي كافياً لتهجير وقتل الآلاف ولتسجيل مجلدات من الصفحات السود، وليس صفحة واحدة أعلن ميشال عون طيها أمس بعد تبني ترشيحه للرئاسة من قبل "القوات اللبنانية". تلك المرحلة كانت أشبه بالجلجلة بالنسبة للمسيحيين ولبنان. وذروة مراهقتي المدرسية والبائسة كانت على إيقاع مدفعية ميشال عون، واكتمل المشهد المفجع باغتيال الرئيس رينيه معوض... هذه المرة لم يُطلق الرصاص ابتهاجاً، لكن النظام السوري سارع الى اختيار الرئيس البديل وكأن الذي اغتيل كان مجرد كائن عابر، وليس رئيس جمهورية، فبدت المسارعة الى انتخاب البديل أكثر فجاجة من أطلاق النهار ابتهاجاً، هي أشبه بإعلان صريح عن تبني القتل...

توقفت الحرب بعد اتفاق الطائف. وعشنا سنوات شبابنا على إيقاع رئيس الإحباط المسيحي الياس الهراوي، ثم رئيس الممانعة و"المكاومة" الجنرال أميل لحود، وما بينهما ويلات الحرب بالوكالة على اسرائيل وتضاريس الفساد والنفوذ والميليشيات والنهب والعار الفاقع في أروقة عنجر المخابراتية، وما بينهما دروس ودروس حول الرئاسة اللبنانية ودور الغرباء في اختيار الرؤساء من الانتداب الى الآن، منذ بشارة الخوري الى كميل شمعون الذي احدث حربا أهلية لأجل أن يبقى العام 1958 الى زمن سليمان فرنجية الجد الخ...

لا أعرف كثيراً عن مضمون بنود الدستور اللبناني، لكن في كل موسم رئاسي يظهر أننا ما زلنا في زمن "داحس والغبراء"، قبائل وجماعات محكومة بالغرائز والولاءات الخارجية وحنفيات المال من هنا وهناك. ويظهر ان هناك مشكلة في آلية انتخاب الرئيس، هناك اجتهادات دستورية كثيرة لكن يبقى الناخب هو المعطى الدولي، والإشارات الأميركية والغطاء السوري والمباركة السعودية والرضا الإيراني والدعم الفرنسي والآن الممر الإلزامي لحزب الله. كأنها انتخابات رئيس الكون، حتى في مرحلة انسحاب السوريين من لبنان بعد القرار 1559 واغتيال الرئيس رفيق الحريري، وبدء البهورة السياسية والحديث عن رئيس "صنع في لبنان". لم يتغير المشهد، بل تعتبر المرحلة الأكثر دموية في اغتيال الشخصيات السياسية، مروراً بحرب نهر البارد، وصولاً الى 7 آيار الذي كان المخرج للذهاب الى الدوحة واختيار الرئيس الرمادي او الضبابي والبليد...

الآن يبدو أننا نعيش مرحلة أكثر تعقيداً هي مرحلة الأنخاب والزجل ودموع الفرح والقوطبة والنكد المقدس والغرور والعنجهية، كأننا انتقلنا من المسرح الدولي الى المسرحية اللبنانية التي يكثر فيها الممثلون، لكن بأدوار فاشلة. يتصرف حزب الله على اعتبار أنه وريث الوصاية السورية، وحارة حريك هي عنجر الجديدة، ووفيق صفا ربما البديل عن رستم عزالي. ويمارس عون سياسة "أنا أو لا أحد"، بعبدا بأي ثمن. ويتعاطى الحريري من منطلق انه يريد رئيساً صنع في بيت الوسط. وجنبلاط يريد رئيسا صنع في كليمنصو. وجعجع يريد رئيسا باختيار مسيحي صنع في معراب. هي مسرحية بانخاب مختلفة وأخيلة كثيرة. شرب فرنجية النخب، ذهبت السكرة وأتت الفكرة، وشرب عون النخب أيضاً، وما بين النخبين شيء يدل على عصفورية في الوصول الى الرئاسة، وعصفورية من يحكم لبنان، وعصفورية من يتحكم بلبنان. الحريري يقول: "أنا 14 آذار"، وجعجع يقول أنا 14 آذار، وعون يقول "أنا الجمهورية"، وحزب الله يقول: انتو مين، وجنبلاط يقول: أنا بيضة القبضان وكذا الأستاذ نبيه بري... هي "أنوات" متضخمة من دون شك.

يكفي ان تقوم قيامة جعجع على الحريري لأنه تحاور مع عون، ثم يعود هو نفسه (أي جعجع) يعلن ورقة نوايا مع عون ويرشحه للرئاسة. ويكفي ان تقوم قيامة عون على فرنجية لأنه التقى الحريري، وهو نفسه كان التقى الحريري وأكل الحلوى. هي سياسة النكد فعلاً، والغرور والبلاهة. سياسة الشيء ونقيضه. سياسة سنضحك كثيراً في هذه المرحلة كما جاء في الفايسبوك. وما بين مبادرة الحريري ومبادرة جعجع، ربما "ننتخب" النائب محمد رعد رئيساً.

وعلى سيرة طي الصفحة السوداء التي تحدث عنها عون في معراب، لا أعرف ما إذا كان صانع الصفحات السود في تاريخ السياسة اللبنانية يقدر أن يطويها. الصفحة السوداء ليست مجرد ورقة بين عون و"القوات". هي صفحة مليئة بالضحايا والدموع والقتل، من حرب تل الزعتر الى حربي الإلغاء والتحرير. وليس عون وحده صاحب الأوراق السود في تاريخ الحرب، بل معظم "قديسي" السياسة اللبنانية.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها