الأحد 2015/02/01

آخر تحديث: 13:35 (بيروت)

أغوتا كريستوف: عن سنوات الأمّية

الأحد 2015/02/01
أغوتا كريستوف: عن سنوات الأمّية
لدى صاحبة السيرة أمور كثيرة تقولها، وإن بعبارات قصيرة تُحبط سائلها، عن عجزها الإستمرار بالكتابة.
increase حجم الخط decrease
هي سيرة قصيرة. إحتاج الناشرون، ومنهم "منشورات الجمل" التي أصدرتها بالعربية، إلى أن تُلحق بها مقابلات أجريت مع كاتبتها أغوتا كريستوف ومقالات كتبت عنها. لم تكن هذه الإضافات زائدة عن الحاجة، فالسيرة توقّفت في وقت مبكّر من عمر كاتبتها. كان مفيدا أن نعرف ماذا جرى في السنوات التي أعقبت الإنخراط المنهمك بالكتابة، حتى وإن لم يكن هناك الكثير مما يُقال، طالما أن كريستوف قضت السنوات العشر تلك متردّدة إزاء مخطوطة واحدة، لم تحقّق فيها تقدّما يُذكر.

لكن لدى صاحبة السيرة أموراً كثيرة تقولها، وإن بعبارات قصيرة تُحبط سائلها، عن عجزها الإستمرار بالكتابة. تخاف مثلا أن يتدنّى مستواها كما تقول، أو أن لا تعود تعرف مَن مِن شخصيات الرواية يستحقّ أن يكون هو المتكلّم أو الراوي. ذلك يأتي تلقائيا في العمر المبكّر للكاتب، حيث لا يتوقّف كثيرا عند الأولويات. لم يكن عليها، في طفولتها، إلا أن تهيىء الجملة الأولى قبل توجّهها إلى السرير. هناك ستتألّف الحكاية من تلقائها، خالطة أشياء حقيقية وأخرى وهمية وكلاما ذا صلة وآخر غير ذي صلة. وكذا كان حالها مع نظمها المبكّر للشعر حيث كانت تنبثق الجمل في الظلام، "تدور حولي، تهمس لي، تتّخذ إيقاعا، تصير لها قافية، تغنّي، وتصير قصائد".

الكلمات كانت عالمها في طفولتها. القراءة أولا. كان والدها معلّماَ يجمع تلاميذه المختلفي الأعمار والمستويات، في قاعة واحدة، وكانت هي، ربما لصلة ما بمهنة ذلك الوالد، تقرأ كل ما يقع تحت يدها. بل إنها كانت تُعاقب بالقراءة كأن يجعلها والدها تركع خلف الأولاد في تلك القاعة، ركبتاها مستندتين على عرنوس ذرة والكتاب مرفوعا أمام عينيها. لكنها، على رغم ذلك العقاب، كانت تقرأ مجدّة بلغتها، الهنغارية، تلك التي كانت تظنّ أنها لغة الكلام الوحيدة ولا لغة غيرها: "الموضوعات والأشياء والأحاسيس والألوان والأحلام والرسائل والكتب والجرائد كانت هي تلك اللغة".

ما كانت تستطيع تخيّل وجود لغة أخرى، "أو أن ينطق إنسان بلغة لا أفهمها". وحين علمتْ أن للغجر لغتهم فكّرت أنها لغة اخترعوها بأنفسهم "تماما مثلما أفعل أنا ويانو حين نتكلّم بحيث لا تفهم أمي ما نقول". لكن سرعان ما حضرت بقوّة لغات أخرى أطلقت عليها كريستوف صفة "لغات عدوّة"، بينها الألمانية التي كانت قد جاءت مع إحتلال النمسا لهنغاريا، ثم الروسية التي كان على معلّم اللغات في المدرسة أن يخضع لدورات قسرية من أجل إتقانها، وتعليمها من ثمّ. وهناك أخيراً الفرنسية التي أصبحت لغة الكاتبة بعد انتقالها للعيش في سويسرا، وبها أصدرت جميع كتبها رغم أنها، كما تقول، ليست متمكنة منها تمكّن أهلها الفرنسيين، وأنها، في أثناء ما تكتب، تظلّ معتمدة على المعاجم والقواميس.

القسوة المذهلة التي طبعت كتابها الأول "الدفتر الكبير"، وهو الكتاب الأوّل في ثلاثيتها التي لقيت صدى ونجاحاً عالميين، قائمة أصلا في حياة كريستوف. لم تكثر في وصف تلك القسوة، لكن تلك الصفحات القليلة تدلّ على ذلك الشقاء الذي يمكن أن يكون عاديا طالما أنّه كان قدر الكثيرين من البشر. الفقر الشديد الذي تكفي للدلالة على قاعه عدم امتلاكها أيّ شيء خاص بها، فمعطف أخيها الممزّق الذي بلا أزرار صار معطفها، وما أخفته عن أمها في ذلك اللقاء النادر الذي جمعهما بعد طول انفصال هو حاجتها إلى ما تنقده للإسكافي الذي يرقّع حذاءها، ثم البرد الذي لا يحتمل مما جعلها تقوم كلّ ربع ساعة من سريرها لتقوم برياضات تدفىء جسمها. وفي السنوات التي لحقت هاجرت مع طفلتها، وزوجها الأول (الذي لم تذكره إلا مرة واحدة، عابرة، كواحد من المهاجرين) من البلد الذي جعلته روسيا غير محتمل. في وصفها لهروبها منه، متسللة عبر الغابات في ما لا نزال نسميه هجرة غير شرعية، إلى الغرب. وهناك، في النمسا حيث محطّة الوصول الأولى وضعت قافلة المهاجرين الصغيرة في محتبس مسيّج تسميه كريستوف حديقة حيوانات، إذ كان الناس يأتون للتفرّج عليها وعلى من معها من وراء الأسيجة.

في سويسرا بلد هجرتها راحت تتساءل إن كان مفيدا ذلك الإنتقال الذي تكبّدت مشاقه. كان عليها أن تعمل، من دون ذكر لزوجها على الإطلاق هذه المرّة، كما يعمل سائر المهاجرين. مصنع الساعات في النهار والإعتناء بالطفلة في الليل. ثم ذلك الصمت التام، والإنصراف عن القراءة، وعيشها في لغة ليست هي التي عليها أن تتفاهم بها مع ابنتها. كانت حياة غير محتملة إلى حدّ أنّ أربعا من النساء اللواتي كنّ في تلك الرحلة قضين انتحارا.


*"الأمّية (سيرة الكاتبة)" لأغوتا كريستوف، نقله إلى العربية محمد آيت حنا في 110 صفحات، "منشورات الجمل" 2015.

 
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها