الثلاثاء 2015/01/27

آخر تحديث: 12:51 (بيروت)

آذر نفيسي (*): قبل أن أجعل أميركا بلادي..

الثلاثاء 2015/01/27
آذر نفيسي (*): قبل أن أجعل أميركا بلادي..
كتاب الإيرانية آذر نفيسي "جمهورية الخيال/أميركا في ثلاثة كتب" يصدر بالعربية قريباً
increase حجم الخط decrease

قبل أن أجعل من أميركا بلادي بوقتٍ طويل، أقمتُ في قصصها الخيالية، أشعارها، موسيقاها، وأفلامها السينمائية. رحلتي الخيالية الأولى إلى أميركا جرتْ عندما كنتُ في نحو السابعة من عمري، عندما أدخلتني معلمتي الخصوصية التي كانت تلقنني الإنكليزية إلى "الساحر العجيب المقيم في أوز". كان منهجنا المدرسي الرئيس كتاباً يحتوي قصصاً بسيطة عن أخوين أميركيين، من المفترض أن يكونا فتاةً وغلاماً. ثمة صفة خاصة يمتاز بها هذان الصغيران النظيفان جداً والمهذبان جداً ألا وهي أنه مهما كان يجري لهما من أحداث، كانت تعابير وجهيهما تحتفظ دوماً بابتسامة سرمدية. كنتُ أعرف اسميهما: "هل كان اسماهما جاك وجيل؟ أم ديك وجين؟"، واسماهما الأخيران "هل كانا من آل سميث؟ آل جونز؟ آل بارترج؟"، مكان إقامتهما، روتينهما اليومي، مدرستهما. لم يبقَ في ذهني أي من هذه التفاصيل الصغيرة والجوهرية. كان عالمهما صغيراً وضيقاً، لذلك لم أرغبْ بمعرفة المزيد عن هذين الصغيرين الباسمين، المهذبين تهذيباً لا شائبة فيه. الشيء الوحيد الذي أتذكره في ما يتعلق بذلك الكتاب، الشيء الوحيد الشيق نوعاً ما، هو غلافه: ملمسه رملي، وذو صورة لأخ وأخت في الصدارة على خلفية خضراء غامقة. 

قرب نهاية كل حصة دراسية، كانت معلمتي الخصوصية تغلق كتاب التمارين، وتشق طريقها متجهةً صوب المطبخ، وتخرج منه  كأسا من عصير الكرز ونسخة ممزقة من "الساحر العجيب المقيم في أوز". كانت تطالع صفحات قليلة فقط في كل مرة، وتتركني في حالة ترقب، أتحرق شوقاً للقائنا المقبل. كانت تحكي لي، غالباً، قصصاً من الكتاب، أو تجعلني أطالع فقرة قصيرة منه. كنتُ أتسمّر جراء اليتيمة دوروثي المقيمة وسط مشهد طبيعي مسطح ورمادي في موقعٍ ما في وسط لا مكان مع خالتها وزوج خالتها العنيدين والمجدين، وكان رفيقها المبتهج الوحيد هو كلبها المدعو (توتو). ماذا سيجري لها عندما يرفعها الإعصار هي ومنزلها، وتوتو يقع في الفخ بالداخل، ومن ثم ينزلهما الإعصار في مكانٍ سحري يُدعى أوز؟ وحالي حال ملايين الأطفال، كنتُ أتابع بنفاد صبر دوروثي ومجموعة أصدقائها المتكاثرين وهم يفتشون عن ساحر أوز الضخم، وهو الفرد الوحيد الذي كان بمستطاعه أن يهب الفزاعة عقلاً، ويمنح الرجل الصفيح قلباً وشجاعة الأسد، ويجعل رحلة دوروثي إلى منزلها ممكنة. 

هل كنتُ قادرةً على صياغة انطباعاتي الأولى عن الولايات المتحدة، وربما حتى أستطيع القول إن ثمة مكاناً في أميركا يُسمى "كنساس"، حيث يستطيع الناس أن يعثروا هناك على بلاد سحرية في قلب إعصار. ولأن تلك هي أول مرة أسمع فيها كلمة "إعصار"، يمكنني أن أقول بصدق إن "الساحر العجيب المقيم في أوز" قد علمتني معانيها الحقيقية والمتخيّلة. كنساس وأوماها كان يتبعهما حالاً نهرٌ يُدعى مسيسسبي، والكثير من المدن، الأنهار، الغابات، البحيرات، والناس – أُسر نانسي درو المنظمة المقيمة في الضواحي، المدن الحدودية لـ"المنزل الصغير الواقع في المرج"، والمزارع التي تذروها الريح في "ذهب مع الريح"( رواية من تأليف الكاتبة الأمريكية مارغريت ميتشل)،  حقل [ كنتوكي ] في "كوخ العم توم"، والشوارع الجنوبية، المغبرة، شديدة الحرارة في "قتل عصفور ساخر"، حيث كانت العدالة فكرة عامة محصنة مثلما ستكون عليه في وقتٍ قريب في طهران. فيما بعد، انضم إلى هذه كلها: مسيسبي فوكنر، القديس بول لدى فيتزجرالد، نيويورك إديث وارتون، ومن ثم نيويورك مختلفة جذرياً لدى ريتشارد رايت ورالف إليسون، لوس أنجليس ريموند تشاندلر، والمدن الجنوبية لدى فلانري أوكونور، يودورا ويلتي وكارسون مكولرز. حتى يومنا هذا، لا أزال أحس أن هنالك أراضٍ جغرافية ومتخيّلة لا تزال متروكةً في انتظار أن يكتشفها المرء. ولعل هذا هو السبب الرئيس الذي جعلني غير قادرة على تأييد ما قاله رامين: في رأيي، لا يمكن فصل أميركا عن أدبها القصصي. 

لم يكن والداي ثريين حينما كانا شابين، إلا أنهما طوال سنوات حياتيهما، الشيء الوحيد الذي لم يترددا في إعطائه لي ولأخي هو: الكتب. كانا يأتمنان لدى أصدقائهما الذين يسافرون إلى خارج إيران لوائح طويلة من عناوين الكتب التي لم يتمكنوا من العثور عليها في طهران كي نقرأها أنا وأخي. وعندما كبرتُ وأصبحتُ أريد الأشياء التي كانت تمتلكها صديقاتي، كان أبي يقول لي مراراً وبطرائق مختلفة إنه لا ينبغي لي أن أركز انتباهي على الأشياء. كان يردد على مسامعي: الممتلكات لا يُعتمد عليها – فقدانها أسهل من الحصول عليها. عليكِ أن تقيّمي الأشياء التي تستطيعين حملها معكِ حتى يوم وفاتكِ. 

 إن أحد الكتب الأولى التي جلبها أبي إلى البيت من أجلي كي أقرأه بالإنكليزية كان "توم وجيري". ولا أزال أتذكر عندما أعطاني "الأمير الصغير"، و"نسيج شارلوت"، التي علّمتني أن شيئاً هشاً ومعرضاً للنسيان كنسيج العنكبوت يُمكن أن يبدي استعداده لإيواء كون مخفي. حين قرأتُ "مغامرات توم سوير" أول مرة، أسرني سحر توم المغري إلا إنني، في حقيقة الأمر، لم أحبه – ربما كانت حقيبته مليئة جداً بالحيل. وفي الوقت المناسب، أصبحت الكتب وعالم الخيال الذي فتحتْ مغالقه، هي الممتلكات المتنقلة التي كان أبي يتمنى أن أحملها معي دوماً. 

 في مساء كل يوم خميس، كان يأخذني إلى دار السينما في القسم المخصص للترفيه من المدينة، وكنتُ طوال أيام الأسبوع أتطلع إلى الوقت الذي نمضيه معاً من دون أن يشاركنا أحد. أتذكر أنني كنتُ أمشي معه يداً بيد عبر شارع نادري المشجر، وهذا الشارع نفسه يشبه منظراً طبيعياً خلاباً في فيلم سينمائي انطباعي، حيث الحوانيت المشوشة تشويشاً كاملاً تبيع الجوز، البهارات، القهوة، المعجنات المحشوة بالخضار أو الجبن أو اللحم، والآيس كريم. فضلاً عن الأفلام السينمائية الإيرانية، كنا نشاهد تلك الأفلام التي يمثل فيها إسماعيل ياسين، فيرناندل، نورمن وزدم وفيتوريو دي سيكا والأعمال الدرامية الرومانسية للنجمين الهنديين البارزين راج كابور ونرجس. كما شاهدنا، بالطبع، أفلاماً سينمائية أميركية: "سبارتكوس وإيفانهو"، "موغامبو"، "لوريل وهاردي"، "جنوب الهادي"، وواحداً من أكثر الأفلام المفضلة لديّ: هانز كريستيان أندرسن الذي مثّل دوره داني كاي Danny Kaye ديفيد دانييل كامنيسكي – م.. لستُ متيقنةً ماذا كان يلزمني أن أفعل بشأن الأفلام الموسيقية، حيث كانت شخصيات الفيلم تبدأ فجأةً بالدوران في وسط وجبة طعام أو بينما هم يتنزهون في الشارع، كما لو أن جنياً عابثاً قد تملّكهم، يرفعون عقيرتهم بالغناء وفي النهاية يلتزمون الهدوء في اللحظة التالية، وبعدها يستأنفون تناول الطعام، أو التكلّم أو تبادل القبلات. منذ ذلك الحين، كنتُ أحسب أن أميركا هي بلاد الغناء والرقص. منذ سن مبكرة، رعيتُ فكرةً عن أميركا كنتُ أؤمن بها حتى إذا كنتُ أعرف أن واقعها، كأي واقع آخر، سوف يكون – حتماً - ناقصاً بشكلٍ من الأشكال، ومخيباً للآمال. 

 ترجم أبي حكايات لافونتين لي ولأخي، ونفذ الرسوم كلها بنفسه، وكتب نسخاً مبسطة من قصائد الشاعرين الكلاسيكيين الفارسيين الفردوسي ونظامي. والأدهى من كل شيء عندما أفكر فيه، هذا ما أتذكره: كان يتقاسم معي وقته وسعادته، كما لو كنتُ نداً له، رفيقته، وشريكته في المؤامرة. لم يكنْ هنالك درس أخلاقي كي يرسمه لنا؛ كان فعلاً من أفعال المحبة، لكنه أيضاً فعل احترام وثقة.

مرت حتى الآن إحدى عشرة سنة منذ أن قابلتُ رامين في مخزن الكتب ذاك في سياتل، ومنذ ذلك الحين سافرتُ آلاف الأميال صوب اثنتين وثلاثين ولاية، وتحدثتُ بشكل رئيس في الموضوع الذي تكلّمنا عنه أنا وهو في ذلك اليوم. وكانت لديه وجهة نظر. بين جولتي الأولى لترويج كتابي، في سنة 2003، والجولة التالية، في سنة 2009، كان عدد كبير من الأمكنة التي زرتها قد طرأت عليها تحولات جوهرية، أو اختفتْ من الوجود: مكان اسمه كودي في بيركلي، مكتبات الفروع السبعة في فيلادلفيا، اثنا عشر من بين الأربعة عشر مخزناً للكتب في هارفرد سكوير، هاري دبليو. شوارتز في ميلووكي، وفي موطني في واشنطن دي. سي.: (أولسون وجابترز. في البداية مخازن الكتب المستقلة، ومن ثم جاءتْ السلاسل الأكبر: بوردرز [ كتبتُ "أن تقرأ لوليتا في طهران" في الـ (بوردرز) في (الأيتينث) و(أل )، الآن: نوردستورم راك ] ومنذ عهد قريب جداً، الـ "بارنيس ونوبل" في جورج تاون، وقد حل محله مخزن (نايك Nike) الشبيه بالكهف – والقائمة تطول. 

 ليستْ مخازن الكتب والمكتبات وحدها التي تختفي بل المتاحف، والمسارح، ومراكز الفنون التطبيقية، ومدارس الفن والموسيقى – تلك الأمكنة كلها حيث شعرتُ فيها أنني في منزلي التحقتْ بلائحة الأصناف المعرّضة للخطر. صحيفة "ذه سان فرانسيسكو كرونكل"، صحيفة "لوس أنجليس تايمز"، صحيفة "بوستن غلوب"، وصحيفة المدينة التي أقيم فيها: "ذه واشنطن بوست"، جميعها أغلقتْ أقسامها التي تُصدر مراجعات الكتب في عطلة الأسبوع، وتركتْ الكتب يتيمةً وعاجزةً؛ باتتْ الكتب بنات عم مسكينات للتلفزيون والسينما. وفي علامة من علامات هذه الأزمنة، نقل موقع "بلومبيرغ نيوز" الإلكتروني تغطيته للكتب إلى قسم "الترف"، جنباً إلى جنب مع اليخوت، ونوادي الرياضة، والخمر، كما لو أنه يريد أن يشير إلى أن الكتب هي استغراق عقيم لفئة الأثرياء جداً. لكن إن كان ثمة شيء لا ينبغي إنكاره بالنسبة لأي فرد غنياً كان أم فقيراً فهو فرصة الحلم. 

 قبل زمن بعيد من ذلك الصباح المشمس، والبارد جداً في كانون الأول (ديسمبر) 2008 حين أديتُ قسم الولاء في مكتب "خدمات الهجرة" في "فيرفاكس"، بولاية فيرجينيا، وأصبحتُ في خاتمة المطاف مواطنةً أميركيةً، كنتُ أسأل نفسي في كثير من الأحيان: ما هو الشيء الذي يحوّل بلدٍ ما من مكانٍ تقيمين فيه ببساطة أو تستخدمينه كمنفى إلى وطن؟ في أي مرحلة "هم" يصبحون "نحن"؟ عندما تتمكنين من أن تسمي مكاناً ما وطناً، فإنكِ لن تعودي تعاملينه بالفضول العَرَضي الذي يُظهره الضيف أو الزائر. أنتِ مهتمة بما هو جيد وسيء. ولن تعود عيوبه مجرد مواضيع للنقاشات. إنكِ تتساءلين: لماذا تكون الأشياء بهذا الشكل وليس بشكلٍ آخر؟ إنكِ تودين أن تحسّني المكان، وأن تغيريه، وأن تجعلي الأمور التي تعانين منها معروفة. وقد اشتكيتُ ما يكفي آنذاك كي أعرف أنه آن الأوان كي أصبح مواطنة أميركية.


(*) مقطع من مقدمة كتاب "جمهورية الخيال/أميركا في ثلاثة كتب" للكاتبة الإيرانية الأصل آذر نفيسي، صاحبة "قراءة لوليتا في طهران".
ترجمة: علي عبد الأمير صالح، ويصدر قريباً عن منشورات "الجمل" في بيروت.

 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها