السبت 2014/05/31

آخر تحديث: 01:50 (بيروت)

'برسفون': آلهة العالم السفلي في بيروت

السبت 2014/05/31
'برسفون': آلهة العالم السفلي في بيروت
increase حجم الخط decrease
 تقف برسفون خلف باب يتوسط غرفة العرض في بيت ورق في منطقة رأس النبع. لذلك المنزل قديم البناء ذكريات فرضت هيبتها على كل زاوية من الحديقة وصولاً إلى الغرف ذات الأسقف العالية. فمن شبه المؤكد أن في ذلك المكان شهادات حية لحرب ما من حروب لبنان غير المنقطعة. قررت برسفون، إلهة نمو الربيع الهاربة من العالم السفلي الذي أبقاها فيه زوجها هاديس شتاء بحسب الأسطورة، أن تصعد إلى هذا المكان اليوم. قررت زيارة بيروت بدل إقامتها المعتادة في رحاب والدها الإله زوس. فضّلت إعادة الخصب والحياة إلى بيروت. 
 
"على سفينتها وقفت جثث المدينة
في رحب صدرها وشمت أسماءهم، أصواتهم و ارتدت دمهم
من برزخ الى برزخ، من أرض الى أرض، من جهنم الى جهنم
وصلت الى المدينة. سكنتها و أسكنتها سكون عينيها
شهقت على بوابتها ، رقصت فوق قبورها ، خصبت شوارعها و طهرت سماءها
جريمة. جرائم جريمة. جريمة. جرائم جرائم . جريمة".
 
وقفت برسفون وحدها في تلك الغرفة، فرضت هيبتها على ذلك المكان وتفوقت بوجودها على كل تاريخه. بلباس أسود بسيط تعرف جسدها إلى بيروت، وبجسد عاكس للواقع الذي لم تألفه الإلهة ترجمت برسفون كل ما تراه. تعاركت يداها في محاولة للسيطرة على رأسها ثم تعاركتا على جسدها. تعرفت هي على دمى صغيرة سرعان ما اشركتها في لعبتها الانسانية الطفولية التي انتهت بسحق تلك اللعب وتدمير أرضية وجودها. اطلقت العنان لكل ما رأت من وحوش مجتمعة في انسان. أصبحت أشبه بشريط مصور لكل تلك المشاهد الدامية مجتمعة. هي يوتيوب مكثف لآكل القلب وقاطع الرأس ومشهر السيوف ومعدم الأطفال.  
 
في ذلك العرض الأدائي الانغماسي "ظهور/ برسفون في بيروت"، للمخرج حسين النّخال الكثير من العنف وشعور بالخوف والإنقباض المستمر.  
 
وكيف لك أن تخبر قصة الأرض والنزاع والحرب البشرية الدامية و الضغوط الاجتماعية والأزمات السياسية بغير العنف؟
 
وصول إلهة الربيع إلى بيروت في محاولة لإعادة الحياة للمدينة لا بد أن يمر أولا بكل ما تحمله ذاكرتنا من أذى ومشاهد أقل ما يقال فيها أنها مؤلمة، فكأن برسفون وبتعرفها على الأرض اعادت عرض ذاكرة كل منا في أقل من ساعة. 
ذلك الشعور بالإنزعاج المستمر طوال العرض تغذيه سينوغرافيا قاتمة ومكملة لأداء ضنا ميخائل /برسفون ومؤثرات صوتية وموسيقى نجحت في تركيبتها بترجمة رؤية إخراجية انعدمت فيها الحوارات وإقتصر فيها الكلام على صوت يلعب دور الدليل الشعري لبداية ونهاية المعالجة الملحمية.
 
شخصية برسفون مزدوجة تجمع ما بين الشدة والقسوة التي اكتسبتهما من وجودها في العالم السفلي والأمل والحياة التي لطالما تمتعت بهما كونها إلهة الخصوبة. هنا تبلورت حرفية وصدق ضنا ميخائيل في نقل تلك الشخصية فهي صادقة مخيفة قاسية وشبه مازوشية خلف القناع الذي من خلاله ترجمت لنا الانسان وقسوته وهي كذلك صادقة قوية مهابة ومسيطرة عند اعتمارها وشاح الالوهة وممارستها شعائر تطهير الأرض من الحرب. وهي الأصدق والأكثر تفاعلاً وتأثيراً في الحاضرين في أخر لحظات لها قبل ترك بيروت: في تلك اللحظات التي تتفاعل فيها مع الجمهور إذ تجلس بينهم، تهمس للبعض كلمات عن المحبة وتقبل يد البعض الأخر أو تعانقهم، مبقية على إبتسامة مطمئنة، فيها حب وتعاطف إلهي موجه للضعفاء المتنازعين في الارض. هنا تكسر ميخائيل الإيقاع المتوتر والمنزعج الذي كان مسيطرا طوال العرض بسكينة تجعلك تحزن لوداع برسفون بعودتها خلف باب العرض، تمشيط شعرها وغفوتها على تلك الطاولة باعثة إشعاعات سماوية في ارجاء الغرفة.
 
تتماهى برسفون في بعض لحظات العرض مع رموز دينية وصور مألوفة لشعائر ممارسات الاديان السماوية فهي وفي مكانٍ ما تقف مصلوبة على صليب إفتراضي تمتد عليه يداها ويتوسطه جسدها وفي مكان أخر تحمل البخور ناشرة الأقداس ولعل في ذلك هدف لإبعاد الصراع الديني عما يراد له توصيفه واعادته إلى هدفه وصورته الاساسية والتي تقضي بخدمة البشر.
 
 قد لا تكون حدود عمل برسفون في بيروت وحدها، وقد لا يسعنا إلا أن نذكر حرب سوريا الدائرة وحاجة المنطقة لزيارة إلهية مماثلة خصوصا وأن صوت الفنان السوري هاني السواح كان صلة الوصل الالقائية الوحيدة التي وصلتنا في عرض المخرج نخال. عمل نخال الناجح وان اراده تفاؤليا فيه الكثير من التفكير في الإنسان وقسوته ووحشية عقله الرافض للمشاركة وقوة الشر الذي قد لا ينتهي بغير تدخل "إلهي".
 
تجربة نخال الشاب، خريج الجامعة اللبنانية للفنون في فرعها الأول، هي الثالثة إخرجياً بعد "غثيان. في البحث عن أية شفافية" في العام ٢٠١٢  و"نون" في تجربة مسرح الأطفال التفاعلي في العام 2013.
 
أما ميخائيل، الممثلة اللبنانية الألمانية الشابة فقد تخصصت في فنون المسرح في ألمانيا بعد ثلاث سنوات في الجامعة اللبنانية للفنون في فرعها الثاني. ومن أهم اعمالها في لبنان نذكر مسرحية "ميديا" من إخراج كارول عبود والتي عرضت في مسرح بابل العام 2012. وفيلم sur ton sein  العام ٢٠١٣ من إخراج فرج عون والذي حصد أكثر من أربع جوائز عالمية حتى الأن من بينها أفضل ممثلة في مهرجان برلين الدولي للافلام للعام 2013.
 
1-(1).jpg
 
العرض من إنتاج جمعية "ورق"، كتابة وإخراج حسين النخّال، أداء ضنا مخايل، كورس هاني السوّاح، سينوغرافيا دافيد حبشي وحسين النخّال، موسيقى ومؤثرات صوتية هالو سايكاليبو وقد بدأ عرضه في ١٦ أيار/مايو في "بيت ورق" في رأس النبع، على أن يستمر حتى منتصف حزيران الجاري، مساء كل جمعة وسبت وأحد واثنين، الثامنة والنصف مساءً.  
 
increase حجم الخط decrease