الجمعة 2014/03/14

آخر تحديث: 01:24 (بيروت)

أكراد سوريا بين ثورتين

الجمعة 2014/03/14
أكراد سوريا بين ثورتين
increase حجم الخط decrease
 انتفاضة قامشلو 2011
في 12 آذار 2004، تغيّر وضع الكرد السوريين على نحو جذريّ. خلال 48 ساعة من بدء ذلك اليوم، امتدّت شعلة الانتفاضة الكردية ضد النظام السوريّ، من قامشلو وعامودا (حيث هُشّم تمثال حافظ الأسد على مدخل المدينة لأول مرة في تاريخ سوريا البعثية الأسديّة) لتشمل كوباني (عين العرب) وعفرين وحلب، حتى بلغت  قلب العاصمة دمشق. حينها شهد الجيش السوري (النظامي) أكبر تحرك عسكري له منذ 1973، وكأنما 12 % من الكرد السوريين العزّل ليسوا سوى أعداء وجوديين، على ما وصفَ ويصف إعلام النظام معاركه اللفظية الاستراتيجية ضد إسرائيلّ طيلة أربعة عقود!

كثيرون من الكرد رأوا حينها في تقاعس بقية السوريين (العرب) عن نجدة إخوانهم (الكرد) علامة على ضعف وهشاشة الرابط الوطني السوري وخللاً أساسياً يشوب العلاقة الكردية – العربية السورية. ثمة ما يشي بوجود شك متأصّل وخشية متجذّرة من طموح الكرد نحو الانفصال عن سوريا، عدا عن أن السياق الذي تمخّضت عنه تلك الحركة التمرّدية ما كان ليحفّز عموم السوريين على تبنّي الخيار الكردي المبكّر والمكلف لمواجهة نظام سيظهر لاحقاً وحشية أشد فظاعة لتغدو معه حال الكرد السوريين نعمة إزاء ما سيحيق بسوريا كلّها من هول كارثيّ طيلة ثلاث سنوات (2011 -2014). 

يبقى الجرح الكردي السوري والإحساس "بأجنبية" الانتماء، لغة وثقافة وهوية قومية، عن عموم الانتماء السوري عاملاً للشعور بعقدة مزدوجة، وستفشل المعارضة السورية بعد 12 آذار 2011 أكثر من مرة في وضع حدّ لشك متبادل وعقيم، وفي الوقت نفسه سيظهر تباين كردي سوري، كرديّ-كرديّ عن خط المعارضة السورية العام، رغم أن انتفاضة قامشلو في جوهرها غير المعلن وغير المنضبط، لم تطالب بحقوق كردية وحسب، قدر ما عنت في سلوكها الثوريّ الضمني، على ضآلة آثاره وسرعة النظام في سحقه، رفضاً لنظام البعث الحاكم ولجحيم دولة المخابرات السورية. 

كان الكرد السوريون قبل ذلك التاريخ يعانون قمعاً مزدوجاً ومضاعفاً، بحكم كونهم سوريين وكرداً في آن واحد. مع وجود أكثر من ربع مليون كوردي سوري بلا أية وثيقة قانونية دستورية تثبت ارتباطهم بسوريا كـ "دولة"، بما يعنيه ذلك حرمانهم من حق العمل والملكية والسفر، غدا ردّ الفعل الكردي إزاء مذبحة قامشلو حينها ردّاً يواجه نظاماً شمولياً دمج العروبوية السورية بصهر الكرد قمعاً ونهباً، وتعامل مع "الأقليات" بمزيج من النفاق والقمع. سبق للنظام أن استغلّ حاجة الكرد القومية المزمنة، لكن فقط كوقود ضد تركيا التي قلّصت من منسوب مياه الفرات! سيظهر لاحقاً أن أصل تعامل النظام السوري مع الكرد، كما مع فلسطينيي سوريا، يرتكز على تحويلهم إلى جنود يردفون قمعه للضغط على الخارج (تركيا وعراق صدام حسين)، ويقدّمون له الولاء الكامل إزاء الداخل. هذا كلّه، قبل أن يتحول العرب إلى عربان، وقبل أن تظهر صور الأسد الإبن مع نصر الله كحامٍ (للحسنَيْن). 
 
12  آذار 2011 
لطالما عُقدت آمال كبيرة على قوة العامل الكردي السوري في تسريع حسم الثورة السورية وإسقاط نظام دمشق (الأبديّ). الحقيقة أن الكرد السوريين، شعبياً كبقية غالبية المجتمع السوري، وقبل أن يتأسّس المجلس الوطني الكردي السوري خريف 2011، كانوا من أوائل من تضامن مع أهالي درعا بداية الثورة. كان ذلك علامة مضئية على وطنية حقيقية ومتجذّرة. لم تنقطع الصلة إذن، ورُفضت رشوة منح الجنسية (العربية) التي قدّمها النظام للمحرومين منها، وأتبعها بدعوة فشلت في نيل موافقة الأحزاب الكردية السورية بالذهاب إلى دمشق. تشهد وقائع ربيع وصيف 2011 خروج تظاهرات كثيرة ضد حصار درعا، ثم ضدّ ضرب حمص في شتاء السنة التالية أثناء قصف بابا عمرو ودكّها بالصواريخ. يكثف العامل الكردي، داخلياً وخارجياً في تزايد خشية النظام من أن تمتد نار الثورة إلى حدّ يعجز معه عن ضبط الحدود مع كل من تركيا والعراق في منطقة حدودية بالغة الحساسية أمنياً واقتصادياً (شريط حدودي بطول أكثر من 500 كم تجاه تركيا، ومثلث النفط والغاز في حقول رميلان أقصى شمال شرقي سوريا بمحاذاة إقليم كردستان العراق الذي ساند التحرّك الثوري السوري عبر دعم إنساني مستمرّ حتى اليوم). تشكّل لحظة اغتيال مشعل التمّو وسط قامشلو امتحاناً خائباً للكرد وعموم السوريين في آن واحد. كانت الرسالة واضحة: من يدكّ درعا وحمص بالمدافع والصواريخ سيدكّ القامشلي إذا ما استمرّ الكرد في مساندة بقية السوريين. 

ساهم تأسيس تركيا واحتضانها المجلس الوطني السوري في إرباك الكرد وتغريبهم عن أول كيان سياسي معارض خارج سوريا. رابط خفي بعيد المدى وخبيث يضغط على الأتراك والنظام معاً ومعهم إيران في تحجيم الدور الكردي وإضغاطه داخل رقعة تزداد اختناقاً يوماً بعد يوم.

سيلجأ الأتراك إلى تقزيم الدور الكردي، وسيقدّم النظام فرصة ذهبية لعودة مقاتلي الـ(PKK) إلى بدء جولات جديدة ضد الشوفينية التركية، لكن هذه المرة عبر منح الفرع السوري (PYD) إدارة كامل المناطق الكردية السورية بقوة السلاح! هنا ستتمزّق القوة الكردية السورية بين طرف مسلّح يحكم عبر متواليات ستالينية قريبة من نموذج حزب الله دعاية وعملاً، وطرف هشّ ومبعثر وبطيء المباردة، لكنه يتمسّك بالخيار السلمي الغريب! سيقف النظام خارج لعبة الشدّ والجذب هذه ويتحكّم بإيقاعها، ليضرب الكرد بالعرب من جهة، والكرد بالأتراك من جهة مقابلة، وسيضطلع الـ (PYD) بأداء الدور على أكمل وجه ويحكم الخناق على الكرد السوريين كما خنقهم النظام طيلة أربعة عقود.

الهبّة الشعبية ، السؤال المرير، والثقل الإقليمي
كانت المناطق الكردية السورية قريبة الشبه بكل من درعا ودمشق وحمص وحماة ودير الزور والرقة لجهة اشتراكها في وحدة أيام التظاهر ووحدة المطالب: كرامة الشعب السوري وإنهاء نظام الاستبداد العائلي الأمني. غير أن الأحزاب الكردية السورية فشلت في رفد أدائها السياسي بقوة المثال الشعبي الكردي السوري. النظام لم يلجأ إلى قتل ممنهج إزاء الكرد السوريين، في وقت كانوا الأسهل قتلاً وقمعاً كما حدث في آذار/مارس 2004. 

كان الهدف واضحاً، وهو إيقاع أكبر أذى بفئة محدّدة من السوريين، مع إحداث شرخ مزدوج، طائفيّ وإثنيّ. الحقيقة أن الوعي الشعبي الكردي لطالما ردّد أسئلة من قبيل: حلب ثاني أكبر مدينة سورية، لماذا لا تخرج كما نخرج نحن في عامودا وقامشلو "الكرديتين"؟ الحسكة مركز المحافظة ونسبة العرب السوريين هي كنسبة الأكراد تقريباً إن لم تكن أكثر، لمَ نخرج وحدنا فيما هم يبدون غير معنيّين مثلنا بدرعا ودير الزور؟! أسئلة لها قاعٌ قوميّ كهذه ستجد صدى لها في سلوك المجلس الوطني الكردي، وستتحوّل إلى مشكلة كردية-كردية تزداد تفاقماً بعد دخول "الجيش الحر" إلى رأس العين وتحريرها ثم قصفها من قبل النظام ثم المعارك بالوكالة التي خاضها كلّ من الـ(PYD) و"الإسلاميين" في ريفَي الرقة وحلب حيث التخالط الكردي–العربي السوري. ثمة من نفّذ ما عجز النظام عن تنفيذه (حرق القرى الكردية وتسليم الردّ على ذلك إلى الـPYD) وإظهاره كحامٍ وحيدٍ، ما لم يكن المنفذّون من طينة واحدة!

تبدو الجغرافيا في غير مصلحة الكرد السوريين، ويبدو عموم السوريين، كرداً وعرباً، ضحايا قوى إقليمية ودولية أكبر من طاقتهم وقواهم، رغم استثنائية ما قدّموه من تضحيات حتى اليوم، 12 آذار/مارس 2014.    
 
increase حجم الخط decrease