الإثنين 2014/03/10

آخر تحديث: 02:23 (بيروت)

الكتاب – الوصية لبرنار نويل

الإثنين 2014/03/10
الكتاب – الوصية لبرنار نويل
increase حجم الخط decrease
 صدر أخيراً "كتاب النسيان" لبرنار نويل* عن "دار توبقال"، وترجمه الشاعر المغربي محمد بنيس. يتضمن الكتاب تأمّلات فلسفية وقصائد وملاحظات عن أساليب الكتابة ودور كلّ من الذاكرة والنسيان فيها. "الجسد لغة بالنسبة لي" يقول الكاتب الفرنسي برنار نويل (مواليد 1930) أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة. "اللغة التي سمحت لي أن أعيد صياغة الكلمات، معاً، من خلال الإشارة إلى شيء واضح بالفعل، تأسّست في الجسد أول الأمر".  

تبدأ كتابة الشاعر الفرنسي برنار نويل (1930) من الجسد وتمكث فيه. ليست كتابة عن الجسد بقدر ما هي ناشئة عنه وفاعلة فيه. جسد الشاعر مكان لغته، ولسانه يخرج من العتمة بكلمات تضيء المغلق والمؤجّل والمتعثّر. من هنا تغدو كتابة برنار نويل توسطاً للأشياء لا كلاماً عنها. إنه يحملها إلى أن تكون نفسها أكثر من أن تكون رموزاً عامة أو معانٍ خارجية. لا تغطي تعابير نويل العاطفة بقدر ما تأخذها من فمها حيث تتناوب الكلمات والأنفاس وتتمازج في وقت واحد. تبزغ العاطفة من لحظة عدم قدرتها على قول ما تريد أن تقوله. إنها أيضاً كتابة تعزّز الإحساس بقوة اللحظة وهشاشتها. 

الجسد، وفق نويل، هو الزمن، والفصل بينهما يأتي من باب الرقم والكمّ لا من مكان الإحساس والمعاينة. يمكن لأحدنا أن يعتقد للحظة أن كتابة كهذه تنحصر في منطقة ضيّقة ومحدودة، غير أننا سرعان ما نجد أن الجسد أوسع مما نظنّ وأكثر غموضاً مما نعتقده واضحاً ومرئياً. 

يرى برنار نويل أن ما يتراكم في النسيان هو نتاج كل العمليات الذهنية – الجسدية التي تمت في جميع اللغات، وما نستردّه من النسيان على هذا النحو، لا يوحي بأي أصل، فالنقاء وهمٌ، وهو لذلك علامة حجب. وهذا ما يعطي للصور حالة المُغفَل التي تسمح لها بأن تتكيّف مع أي لغة. يعتبر أن الذاكرة لعبت دوراً أساسياً في الحضارات المتعدّدة التي اعتمدت على فن الاستظهار، الحفظ والتلقين. كان هذا الفن مصحوباً بكتابة ذهنية تتمثّل في السكن داخل أمكنة تحدّد أجزاء خطابٍ أو نص. وقد تم تصور الأمكنة وبناؤها وفق نماذج معمارية تظهر بكثافة حتى يترسّخ منها الشكل والموضوع. كانوا ينظّمون الفضاء الذهني على شاكلة بيت، أو قصر، أو معبد. ففي مختلف الأجزاء المبنيّة على هذا النحو حسب نظام لا يقبل التبديل، كان الشخص ينظّم مختلف أجزاء خطابه، مثلاً يضع التقديم في المدخل، الاستهلاك في الغرف الداخلية، مما كان يسمح على إثر ذلك للمسار الذهني للعمارة أن يعثر على العناصر المتتالية للفكرة والتعبير عنها، وكان على اختراع الكتابة تدمير هذا النظام ما دام بإمكانها أن تستظهر كل شيء، لكنها سمحت على الأصحّ بنقله إلى مستوى الإتقان منذ العصر القديم حتى نهاية العصور الوسطى. 

إن اختراع المطبعة هو الذي وضع نهاية لفنون الذاكرة. إن الذاكرة تختزن ما نراه، أي أنها بالأساس بصرية، فيما النسيان يراكم ما لا نراه: أليس لهذا التناقض ما يعادله في الانتقال من لغة تعتمد رسم الإشارة ورمز الفكرة إلى لغة أساسها الحروف الأبجدية؟ "إن اللغة هي الرؤية وقد تحولت إلى أصوات؛ والكتابة صوت تحول إلى رؤية دون أن تصبح مجدّداً بصرية". والنسيان، وفق برنار نويل، يتكلم دون علم منه لغة الجنة الضائعة، وهي بالتأكيد لغة الطفولة أيضاً. كما يُسجّل النسيان بطريقة مقلوبة ما تجهد الكتابة في أن تضعه على وجهه. النسيان مستمر، والكتابة متقطعة وممارستها، نتيجة ذلك، لا منتهية. الذاكرة فضاء يراكم فعله بداخله أمكنة تبعث على التذكير بأشياء، وأحداث، ووجوه. تخترع الكتابة أمكنة، لا من أجل التذكير، بل من أجل أن يبرز هناك ما لم يسبق له قط أن وجد في مكان آخر، ولكنه يوجد على الدوام بطريقة أخرى. النسيان هو فضاء تلك الأمكنة، وهو في الوقت نفسه سؤال الكائن إزاء الفناء: "ما النسيان؟ إنه ما يرفض، خارج نفسي، الموتَ على الدوام". 

يكتب محمد بنيس في مقدمة الكتاب: "النّسْيان، كنقيض للتذكّر وبالتالي للذاكرة، علامةٌ على الأدب الحديث. وما يفعله النّسْيان في ممارسة الكتابة هو ما يسعى المؤلف إلى النظر إليه من زوايا مختلفة. وقد اتبع، لأجل ذلك، جمالية كتابة شذرية، لها كثافة الشعر وموسيقية المقطع. ومنَ العبث أن نبحث عن نسق مُغْلق في كتاب لم يصبح كتاباً إلا لأنه يأتي من نسيان مناهج الآخرين وذاكرتهم. هكذا نفهم أن "النّسيان هو مسقط الرأس" بالنسبة للكاتب، إذ لا ميلاد له مع خضوعه لسطوة الذاكرة وهيْمنتها. وبعكس الاعتقاد السائد، لا بد من قول إنه لا شيء يضيع مع النّسيان. فما ننساه يظل موجوداً في مكان ما من الجسد ثم يعود إلى الظهور في الكتابة لا كما كان ولا إلى ما كان، بل "ككلام لكلّ ما تمّ فُقدانُه"، يعودُ من المكان الأبْعد، المجهول. لا شكّ أن كتابة برنار نويل عن النسيان تدلّنا على الممكن، المفاجئ والحر، في زمن يُصرّ على تشويه النسيان. وفي كلّ هذا اختيارُ عدم التراجع عن تبنّي ما لا ينْتهي، في كتابة لها حريةُ المتخيل وتعدديةُ المعنى".
 

• برنار نويل، واحد من أهم شعراء الفرنسية، روائي، كاتب مقالات، وناقد فني. صداقته للرسامين وذوقه الفني قاداه إلى التعاون في تحقيق العديد من الكتب، منها: "ماغريت"، إضافة إلى رواية "لسان آنّا" عن الممثلة الإيطالية آنّا مانياني. حاز الجائزة الوطنية الكبرى للشعر (1992) وجائزة روبير غانزو (2010).
 
increase حجم الخط decrease