وعلى الرغم من تشكُل الفيلم من طبقات سردية مختلفة وغير مترابطة بشكل مباشر، الا أن الأحداث تجري في خلفية واحدة، يتوحد فيها الجو العام للمدينة التي تمتلئ بأصوات تدمير المباني. تزيد هذه الأصوات المتكررة، الضغط الدرامي على الشخصيات التي تحارب من أجل إصلاح علاقاتها العاطفية، من دون أن تبدو معنية في هذا التحول المخيف الذي تمر به المدينة، أو بدون أن تعطي حتى أي بوادر للفهم. فمثلا في المشاهد الأولى للفيلم، يحمل سانمينغ كرتونة قديمة كتب عليها عنوان منزل زوجته، ورغم علمه لاحقا أن المنزل قد أغرقته مياه السد، لكنه يظل محتفظا بالكرتونة التي لم يعد لها وظيفة بعد اختفاء المنطقة، مقدما دليلا بأن الرجل لا يفهم تحديداً، كيف يمكن لمدينة أو منزل أن يختفي بهذه البساطة.
وكان الفيلم حاز عام 2006، جائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية السينمائي، وينتمي الى نوع فني ملتبس، اذ كان من المفترض أن يكون فيلما وثائقيا حول الإختفاء لكن مخرج العمل قرر في مراحل التصوير الأخيرة، إدخال القصة تلك ليصير الفيلم وثائقيا ودراميا في آن. يقدم العمل وجهة نظر حول قدرة الإنسان على فهم هذا القدر من التحول الإجتماعي والجغرافي، الذي تشهده تلك المنطقة ما لا يمكن فصله عن مساءلة لتلك السياسات التي يتبعها النظام الصيني في ما يسميه تطويرا للبلاد وعواقب هذا التحول من النواحي الإجتماعية والإقتصادية.
ولا تبدي شخصيات العمل أي بوادر إدراك لهذا الحجم من التحول، وهي في بحثها داخل المدينة التي تسير نحو الإختفاء، عن أجزاء من ماضيها، تبدو كأنها تتشبث بوهم "النوستالجيا" الذي يبدو للمشاهدين، تافها وبعيدا عن قدرته على إعطاء أي اجابة حقيقية حول معنى الإختفاء وكيفية إدراكه. فما يحرك النوستالجيا، في فيلم زانكي، ليس تقدير الشخصيات لماضي المدينة المنكوب، بل بحثهم في ذلك الماضي عن ما يمكن أن يُسكن نكباتهم الشخصية والعاطفية. في أحد مشاهد الفيلم عندما يتعرف سانمينغ على أحد الرجال يخبره قصة فقدانة لزوجته وابنته، فيقول له الرجل "إن مجتمع اليوم ليس مناسبا لنا، لأننا نعاني من النوستالجيا بشكل حاد"، وتختصر هذه الجملة الكثير عن واقع الشخصيات التي تبدو كأنها غير مدركة لما يتحول إليه المجتمع وهي متعلقة بماضٍ وهمي، ويصح كذلك عكس تلك الجملة لتصير "أننا نعاني من النوستالجيا لأن مجتمع اليوم غير مناسب لنا".. كأننا عندما نلجأ إلى تلك النوستالجيا، نحاول أن نهرب بطريقة أو بأخرى من الإغتراب الذي نعاني منه، أمام هذا التحول الذي يجبرنا على التشرد "المكاني والزماني". تصير النوستالجيا بطريقة ما أداة مقاومة تتبعها الشخصيات لمجابهة المأزق الإجتماعي الذي تعاني منه، لكن هذه النوستالجيا وفي الوقت نفسه، تساهم بشكل خاص في تعزيز إختفاء المدينة وذلك في قدرتها على طمس الماضي تحت أوهام النوستالجيا، التي تعمل كأداة تجميل لذلك الماضي من خلال تحسين صورته وإظهاره كـ"زمن جميل" يتسم بالتجانس والعدل الاجتماعي، ما يؤدي بالتالي الى تغيير صورته الحقيقية الى أمكنة مختلفة كليا، فيصير إختفاء المدينة اختفاءين، الأول تحت المياه أما الثاني تحت أوهام النوستالجيا.
وتجري أحداث الفيلم كلها في زمن واحد، هو الزمن الحقيقي الذي صوّر فيه الفيلم العام 2006، قبل أشهر فقط من بدء المرحلة الثانية من إغراق جزء آخر من المدينة بالمياه. ينتمي الفيلم الى الحاضر لكنه يقف بين زمنين يحضران بقوة في الفيلم، أولهما ماضي المدينة الذي يحدّثنا عنه خبير الآثار الباحث عما يمكن أن يجده قبل إختفاء المدينة النهائي. ينتمي هذا الزمن الى الماضي، لكن إغراق المدينة الآن يضعه في مرحلة أخرى يصير كأنه سيمضي مرة جديدة الآن، ما يجعل عالم الآثار يستغل الوقت الأخير قبل انتهاءه.
يثبت عالم الآثار أن الماضي حتى اللحظة التي تسبق اغراق المدينة، هو مستمر وأنه حقيقي وهو جزء من الحاضر أكثر من انتمائه الى ماضٍ خيالي. أما الزمن الآخر فينتمي الى المستقبل وهو زمن التقدم والتطور الذي تحلم به الحكومة الصينية، والذي يظهر بشكل خاص في الإعلانات الدعائية عن محطة توليد الطاقة، التي يبنى السد من أجلها. يوثق الفيلم هذا الوعي التاريخي الزائف الذي يضع الصيني أمام حاضر، يتحول الى حطام ويتم إغراقه عمدا والتضحية به من أجل أوهام المستقبل الحداثية، كما أنه يرصد أنماط تفكير تلك الشخصيات التي تنزلق نحن المستقبل بدون أن تكون قد امتلكت الحاضر أو أدركته وفهمت تحولاته.
(*) هنا حلقة جديدة من ملف "المدن الزائلة"...
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها