الجمعة 2014/11/28

آخر تحديث: 15:10 (بيروت)

سعيد عقل الكبير المترفّع القلق

الجمعة 2014/11/28
increase حجم الخط decrease
كان مفاجئاً لنا، نحن طلاب الجامعة المهجوسين بضرورة الصلة بين الكتابة وما كنا نسميه نبض الشارع، أن نقرأ ذلك الكرّاس الذي يحمل عنوان "مشكلة النخبة في الشرق". فالصفحات التي لم تتعدّ الخمسين كانت تدعو إلى عزل النخبة عن الحياة العامة وإقامتها في أماكن مخصصة لها، خوف أن تتلوّث أفكارها بما يُتداول في ذلك الحضيض الأمّي. لا بأس، كنا نقول، معتقدين هكذا أن الأفكار اليسارية كانت جديدة آنذاك، وهي تأخّرت عن تشكيل سعيد عقل لوعيه ولنظرته عن دور الثقافة والأدب.

لكن، رغم ذلك، لم يتحوّل سعيد عقل عن فكرته تلك خلال ما تلى من سنوات. بل أحسب أنّه، منذ بداية كتابته سنة 1935 مع مسرحيته "بنت يفتاح" كان يرتفع عما هو حاضر وراهن. ليس في ما يتعلّق بالشخصيات ومحيطها، بل أيضا في شعريته التي تتطلّع دائما إلى الأسطوري، وإلى السابق في الزمن. في قصيدته النادرة عن شولوخوف، صاحب "الدون الهادىء"، بدا قادراً على أسطرة التفاصيل التي تتألّف منها الرواية، وضمّها، مع مؤلّفها إلى عالمه: "نهر الرجال المنتهي خلف أنجم؟ وأنت تخطّ النهر أيكما النهر؟" كتب مخاطباً الكاتب الروسي. في تلك القصيدة، وفي قصائد أخرى كثيرة، بدا سعيد عقل كأنه يصف نفسه كيف يراها وكيف يحبّها أن تُرى. ذاك أنّ تلك الرفعة لم تكن قائمة في أدبه وفكره وحدهما، بل في شخصه ذاته، ألمجسّد لما كان يراه عملقة العالم.

الشعر بحسبه هو إحتفال بما ينبغي تمجيده. قد يكون ذلك مدينة، أو حضارة، أو شخصاً فرداً، أو فكرة، أو حتى كلمة، أو حتى حرفاً "أشعل السطر كلّه" كما قال في واحدة من قصائده. في فترة لحقت من إعجابنا بشعره رحنا نقول إن قاع ذلك الجمال ليس عميقا، ما دام أنّ إمعان التفكير في ما حفظناه منه يبقيه حيث هو، في ذلك الإنطباع الأول، ألمدهش والذكي رغم ذلك، والمتمكّن من اللغة العربية إلى حدّ أنّه، في بعض شعره، يبدو كما لو أنّه يلهو بها لهوا. وفي فترة لحقت أخذه ضجره من تلك اللغة إلى الرغبة بتخطّيها وتغيير حتى الحروف التي تكتب فيها. في سنوات الستينات بدا سعيه إلى إحلال الحرف اللاتيني محلّ الحرف العربي أشبه بحملة استمرّ في إطلاقها سنوات. كان محقّأ في تقديره أنّ اللغة العربية، بل واللغات عامة، تثقلها الزوائد والإستثناءات، لكن ما فاته أنه يصعب على اللغة أن تكون جازمة في دقّتها، شأن المعادلة الرياضية.

لم يكن اقتراحه ذاك شأناً لغوياً أو ألسنياً، بل دعوة فكرية وسياسية لم يكن هو السبّاق في ابتداعها على أيّ حال. لكن يظلّ السؤال قائماً عن سعيه لإقصاء ما هو متمكّن منه ذاك التمكّن. في نشره كتباً بالحرف اللاتيني ذاك بدا كما لو أنه يجازف بطيّ ما سبق أن كتبه من قصائد لقيت ذلك القدر من الحضور والتداول. كأنه انتقل، أو نقل نفسه، من مكان إلى مكان، فيما الترنّم بأشعاره ما زال يُلقى ويُتردّد ويغنّى.

هكذا هو سعيد عقل، لا يتوقّف عن مفاجأة متابعيه. في سنوات لحقت نقل عالمه اللبناني القديم من الشعر إلى الفكر. قال لي مرّة في مكالمة هاتفية إنّه ماذا هو سعيد عقل إن قورن بإقليد، مقترحا هكذا إسما أقل يونانية لإقليدس، لكن قبل ذلك متّضعا، هو الذي لم يكن التواضع من شيمه، إزاء رجل من أولئك الذين صنعوا مجد لبنان الغابر بحسبه. عن لبنان القديم كتب في الصحف وأجرى مقابلات لم تكن في ما أحسب تُستقبل بالترحيب الذي كان ينتظره. بل إن مرحلته الفكرية والنظرية تلك جرى ربطها بتحولات سنوات العمر الأخيرة، هكذا بما يُعفي من نقاش ما يقول.

وشأن الأدباء لم يكن اشتغاله بالسياسة إلا أكثر نواحي نشاطه ضعفا، إذ كيف يمكن لذلك الوعي الأسطوري أن يساجل في حرب كتلك التي عاشها لبنان إلا أن يقول أنها حرب "بين أقزام وجبابرة" كما كتب في واحدة من المنشورات التي كانت تصدر إبان الحرب الأهلية.
ذلك المترفّع صاحب الخيلاء الفكرية، كان قلقا أيضا. لم يكن يطيق المكوث حيث هو فيسرع إلى البحث عن جديد يظلّ، على الغالب، جديده هو. لذلك ربما تُسجّل تحوّلاته بإسمه، إذ قلّما تابع أحد ما كان توقّغ عنده من تركته. كان قلقا، لكن ذلك يتعلّق بالأدوات والأساليب كما يمكن أن يقال، لا بالنظرة إلى القيم  والتواريخ وإلى ما ينبغي أن ينسب إليه البشر.      
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها