الإثنين 2018/04/09

آخر تحديث: 11:37 (بيروت)

الحيوان

الإثنين 2018/04/09
الحيوان
increase حجم الخط decrease
على الرغم من التحقيقات في تورطه بعلاقة ما مع روسيا، يبدو الرئيس الأميركي دونالد ترامب، مرتاحاً أكثر في رئاسته. الادارة الاميركية بدأت تلين له بعد سلسلة تغييرات لطواقم، هو من عيّن بعضها. مؤخراً، بدأ ترامب يتخذ وضعيته المناسبة لتطبيق شعاره "أميركا أولاً". استغرقت هذه العملية السنة الأولى من عهده. طبعاً، ولم لا؟ هي عملية ترويض مزدوجة: ترويض ترامب للإدارة، لإدارة الدولة الأميركية، أكبر شركة ومستثمر عالمي، وأكبر ترسانة مسلحة، ومواطنوها أكثر شعوب الأرض اختلاطاً. وترويض الإدارة لترامب، الكاوبوي السبعيني، أحد أغنى أغنياء أميركا، الذي لم يكشف أصلاً عن سجله الضريبي.

وصول ترامب للرئاسة، هو مطلب الأعمال الكبرى، للتخلص من الصواب السياسي، وخطاب الليبرالية ووعود الديموقراطية وحقوق الانسان، لصالح التطبيق العملياتي الواضح للمصالح الرأسمالية. التخلص من الخطاب الشعري، مع جرعة أكبر من الواقع في تسمية الوقائع، باسمها. إدارة تطبق برامج مربكة، لتحقيق أفضل انتاجية اقتصادية للداخل الأميركي. عقلية رجل الأعمال، المهووس بـ"تويتر"، الشعبوي الطائش، الملتزم بالكثير مما تعهد به.

أميركا ليست أُمنا بعد اليوم. "أميركا فيرست" للأميركيين. للنخبة. هو البريكزت الأميركي. هو التخلي عن حلف عالمي ساد منذ الحرب العالمية الثانية، كانت أميركا المسؤولة الأكبر عن تمويله ورعايته، وحمايته من السوفيات. تناقضات الرأسمالية والشيوعية، الديموقراطية والديكتاتورية، الليبرالية والانغلاق، انتهت مع هدم جدار برلين، وانتصار الحلف. ولم يعد من جدوى اقتصادية مترتبة على استمراره، ولا منافع منه للأميركيين. هم يريدون العودة إلى ما قبل العام 1939، حين كان اهتمامهم منصبّاً على ذاتهم. البقاء في الحلف، يقتضي من بقية الأعضاء أن يدفعوا لأميركا لحمايتهم: "ادفعوا لنا لنواصل مدّكم بافضل تكنولوجيا، وأهم حماية عسكرية ضد أي تهديد. توقفوا عن التكلم بلغة الحلفاء المضمونين". الرسالة الأميركية إلى أوروبا كانت واضحة: "قوموا بشؤونكم الخاصة، وتحملوا أعباءها".

الحلف تفكك. خرجت بريطانيا، ثم أميركا. تصويت ناخبي بريطانيا على الخروج من نطاق الاتحاد الاوروبي، وخروج أميركا من الناتو وغيره من الاتفاقات الدولية، كان تأسيساً لنهاية العالم القديم. أوروبا فهمت الدرس. فلا مجال متاحاً حالياً للتحدث في السياسة، كمنظّري الأكاديميات والمحللين الاجتماعيين؛ لا مجال لمساعدة عالم يغرق. ليس من حق طهران امتلاك سلاح نووي، ولا مطامع امبراطورية لها. الاتفاق النووي باطل معها. الصين ستخضع للاقتصاد العالمي، ولا مجال للتسامح مع تهربها الضريبي أكثر. بمجرد رفع سقف التناوش بحرب اقتصادية، جلبت الصين، الطفلَ الكوري الشمالي المعجزة، إلى بكين، وتعهدت بضبط هذا الملف. الضغط الاقتصادي الاميركي على بكين هائل، ولن تتعافى من معركة كهذه.

لحظة الخروج هذه، كانت شديدة الكلفة على العالم القديم؛ أوروبا والشرق الأوسط، بشكل أساسي. أميركا كانت قد بدأت الانسحاب في عهد أوباما، لكنها لم تتنصل حينها من مسؤولياتها الدولية الكبرى، رغم أنها كانت لا تزال تتعافى من أزمة مالية خانقة.

هل حقاً ساهمت روسيا في إيصال ترامب للرئاسة؟ لا يبدو الجواب بسيطاً. روسيا تلاعبت بالانتخابات،  لكنها قد تكون أوصلت اللاعب الخطأ. ليست لترامب مصلحة سابقة في قتال روسيا، بل كان مستثمراً فيها، وربما للروس بعض الألاعيب معه. روسيا بلد صغير، اقتصاده بحجم اقتصاد ايطاليا، يغرق في أزمات اجتماعية خانقة، ويعيش على ريع النفط والغاز.

العرض الروسي للقوة في سوريا، لم يقنع أحداً. سلاح غير فعال، أخطاء بشرية وتقنية، وزِد على ذلك وقاحة روسية، وإصراراً على استخدام الكيماوي مراراً وتكراراً ضد المدنيين السوريين. وَهمُ القوة دفع موسكو لاستباحة بلد وتدميره بحجة الحفاظ على الاستقرار العالمي وحماية سيادة الدول، الكاذبة. الموقف الروسي الحقيقي يتجسد في فكرة بسيطة: أميركا تغادر.. وسنستعيد موقعنا القديم. هنا تلاقت مصالح موسكو مع طهران، وسط انسحاب أميركي.

لماذا استهدفت روسيا، العميلَ الروسي المزدوج سكريبال وابنته في ضاحية نائية في بريطانيا؟ ولماذا أشعل قرار ترامب الانسحاب من سوريا هذه اللحظة المجنونة في تاريخنا، تاريخ الجنس البشري؟ الإجابة ستبقى تكهناً. لماذا قرر بوتين ضرب دوما بالسارين، في الذكرى السنوية الأولى على قصف الولايات المتحدة الانتقامي لقاعدة عسكرية للنظام السوري انطلقت منها الطائرة التي نفذت اعتداء خان شيخون الكيميائي ضد المدنيين؟ التحدي الرمزي لواشنطن كان مبالغاً فيه. طَردُ "جيش الاسلام" من الغوطة الشرقية، بعد تركيعه بالكيماوي، هي رسالة مباشرة للسعودية، داعمته الرئيسية. الأمير محمد بن سلمان كان في طريقه من واشنطن إلى باريس، أثناء غزوة السارين.

القصف بالسارين على دوما، واستخدام أحد أنواع السارين في تسميم العميل سكريبال، هو التوقيع الروسي المرعب، على تبني العمليتين. الدبابات الروسية كانت قد عبرت ليل السبت/الأحد، حدود أوكرانيا الشرقية، في ما يبدو موجة تصعيد جديدة ضد كييف والغرب. القصف على دوما بالسارين، لا يمكن ألا يكون روسياً، فغرف العمليات القتالية، يُشرف عليها ضباط روس، بشكل مباشر. الروس فرضوا هيمنتهم الكلية على أجهزة النظام العسكرية، وهيئة أركانه. الطيران فوق الغوطة، كان يدار من قبل روسيا مباشرة.

قصف دوما بالسارين، في ليلة تسليم مستشار الرئيس الأميركي للأمن القومي هربرت ماكماستر، مهامه لخليفته جون بولتون، هو اختبار روسي للحدود الأميركية، وإرباك لعملية الانتقال بين المستشارين. فإما بداية ضعيفة لبولتون، في حال تجنب توجيه ضربة للأسد، وإما بداية متعثرة بالرمال السورية المتحركة. الهلع الروسي كان هائلاً، بعد ليلة الكيماوي. اختفى الطيران الروسي من الأجواء السورية لساعات طويلة، وسط أنباء عن سحب معظم الطائرات القتالية من مطار حميميم والتوجه إلى روسيا.
رهان بوتين على الفوضى، هو سلاحه الوحيد. لكنه، ربما قد بالغ قليلاً في استفزاز أميركا. وربما فعل ذلك عن قصد. مَن بإمكانه معرفة ماذا يدور في رأس أحد أغنى أغنياء العالم، وأكبر بلطجيته، فلاديمير بوتين؟ 

التنبؤ باللحظات المقبلة، ممتع جداً، كتمرين ذهني على الوجهة التي يمكن أن يتدهور إليها العالم برمته. ثمة إشارات كثيرة؛ الأحلاف التي تتشكل، مساندة أوروبا المذهلة لبريطانيا في لحظة تخلي بريطانيا عن حلفائها التاريخيين. ووقوف واشنطن للمرة الأولى أمام لحظة الحقيقة في سوريا. لحظة مربكة من التاريخ، سيترتب عليها الكثير من التداعيات. يبدو أن أقل ما فيها أهمية، هو أن "الحيوان" بشار الأسد، بحسب وصف الرئيس الأميركي له، قد استهدف دوما بالسارين.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها