وكأن "الاستشراق" بوصفه مخيلة الغرب عن الشرق، بحسب إدوارد سعيد، صار مقتصراً على كابوس "الدولة الإسلامية". فلم يبقَ من شرق "ألف ليلة وليلة" سوى سيف الخليفة البغدادي. و"الاستشراق" كأسلوب فكر قائم على "التمييز الوجودي والمعرفي بين الشرق والغرب"، صار مختزلاً بالمعرفة اللازمة لتمييز "المشرقيين" المشتبه فيهم والخلايا الجهادية في الغرب. والبحث في مشاكل "الإسلام" الوجودية والمعرفية، صار بديلاً أكثر استساغة من البحث في الدوافع المعاصرة لـ"المسلمين" للخروج على النظام العالمي. تحوّلٌ تطابق عملياً مع وراثة أجهزة الاستخبارات الغربية لمؤسسة "الاستشراق" في التعامل مع الشرق، وإن تطورت بعض مراكز الأبحاث "Think Tanks" لتقوم بمهمة مساندة برتبة "المُخبر المعرفي".
ويظهرُ "المستشرقون الجُدد" في فضاء "تويتر"، كقضاة ومعلقين على كل شاردة وواردة تخص الجماعات الجهادية في الشرق والغرب، تحتفي بهم وسائل الإعلام العالمية، وتطبع لهم الكتب والدراسات. إلا أنهم، ومنهم "الأسديون" والمعارضون، كثيراً ما يشتبكون، متبادلين الاتهامات بعدم المعرفة وإدعاء العلم بالشرق وقضاياه، بل والتشكيك في معرفة اللغة العربية والإسلام.
"المستشرقون الجدد" وإن كانوا غير منخرطين في صناعة السياسة بشكل مباشر، إلا أنهم مساهمون عبر الـ"Think Tanks" في صياغة توصيات تنفيذية تجد طريقها إلى دوائر القرار، خصوصاً الاستخبارية منها. وقد يحظى بعض "المستشرقين الجدد" بفرصة لتنفيذ توصياته، كما حدث سابقاً مع سايكس وبيكو، اللذين لم يكونا بدوريهما خبيرين حقيقيين في شؤون المشرق، لكنهما كانا "مستشرقين" بامتياز.
سايكس وبيكو
البارون، والنائب في البرلمان عن يوركشاير، مارك سايكس، ذو الستة والثلاثين عاماً، كان قد استُدعي إلى مكتب رئيس الوزراء البريطاني أسكواش، في 16 كانون الثاني/ديسمبر 1915 لينصحه ومجلس حربه، عن أفضل طريقة لتقسيم الامبراطورية العثمانية. جيمس بار، في كتابه "خط في الرمال" ينقل قول سايكس، إنه من "خلال حظ خارق" سُمح له بتقديم إفادة إلى مجلس الحرب، مستعيناً بخريطة رسم عليها خطوطاً حددت مناطق نفوذ بريطانيا، ما سيغير شكل الشرق الأوسط.
قبل ذلك، كان سايكس، قد حاز سمعة كخبير ذي سلطة في مواضيع الشرق الأوسط، عبر مجموعة من الكتب التي وضعها، وكان آخرها "آخر إرث الخليفة" الذي تناول صعود ظاهرة الإسلام كقوة سياسية، بناء على زيارات قام بها إلى السلطنة العثمانية قبل الحرب الأولى. سايكس، الملقب بـ"الملّا المجنون"، كان قد ترك رئيس الوزراء البريطاني ومجلس الحرب تحت تأثيره، مقنعاً اياهم بطلاقته في العربية والتركية، اللتين لم يكن يجيدهما إطلاقاً.
علاقة سايكس بالمشرق العربي، بدأت منذ طفولته، بزيارة إلى مصر، مع أب غريب الأطوار وأمّ كحولية، زواجهما على حافة الطلاق. الرحلة فتحت أبواب الشرق "الإيروتيكي" الغرائبي، أمام سايكس، الذي عاش تحطم زواج والديه هناك، مع علاقة أمه الجنسية مع مرشد الرحلة. منذ تلك الرحلة، اعتاد سايكس، زيارة الشرق بشكل متواصل، مدعياً مغامرته إلى أراض مجهولة، رغم أنه لطالما احتقرها، مُعبّراً عن الازدراء لأهلها، من الموصل إلى حلب، مروراً بدمشق.
سايكس لم يجر أبحاثاً ذات صدقية حول الشرق وسكانه، وكتبه في أحسن الأحوال، هي وصفية تعتمد أحكاماً مسبقة، بلا براهين.
خبرة سايكس في الشرق، قد لا تتجاوز تلك التي كانت لفرانسوا جورج بيكو، الذي خدم قنصلاً لفرنسا في بيروت قبل الحرب الأولى. وبيكو عضو لوبي الضغط "لجنة آسيا الفرنسية" صاحبة التأثير الكبير في الخارجية الفرنسية وسياساتها، كان مهجوساً كزملائه في اللجنة، بفوبيا الإنجليز. هدف بيكو كان دوماً، الحرص على المصالح الفرنسية في سوريا، والتشكيك في النوايا الإنجليزية فيها. المحامي بيكو، المؤمن بـ"المهمة التحضيرية" لفرنسا الإمبراطورية، أخذ اسم أبيه الكامل، جورج بيكو، مؤسس مجموعة ضغط أخرى هي "لجنة أفريقيا الفرنسية"، كي لا يغفل أحد هويته. وكتب مرة ديبلوماسي انجليزي عن بيكو إن طريقته هي "تقديم لا شيء والمطالبة بكل شيء".
بيكو كان قد تلقى خلال إقامته في بيروت، رسائل من نشطاء عرب، طالبوا فيها بدعم فرنسي لاستقلال بلادهم عن السلطنة العثمانية. كما تواصل بيكو مع لبنانيين لدعم انتفاضة ضد العثمانيين، مؤكداً أن فرنسا سرعان ما ستتدخل لحمايتهم، وتزويدهم بالسلاح. وحين أجبرته السلطات العثمانية على مغادرة بيروت قبل نشوب الحرب، ترك بيكو تلك المراسلات، باهمال وسذاجة، من دون اتلافها. بسبب قلة حرص بيكو، وعدم تدخل فرنسا، أعدمت السلطات العثمانية ولاحقت العشرات من أصحاب الأسماء التي وجدتها بين ملفاته.
مالي ونومكين
إذا كانت روسيا وأميركا، قد ورثتا الشرق، كأرض ومصالح، عن الأوروبيين، فهذا يعني نظرياً وراثتهما لمؤسسة "الاستشراق" أيضاً؛ إلا أن "إدارة أوباما" و"ناس بوتين"، يشتركان في رفضهما رؤية الشرق، لا استشراقياً ولا واقعياً؛ لا كمخيلة الغرب عن الشرق ولا كشرق بذاته. هذه نقطة الغرابة، التي يلتقي عليها الطرفان، ما يُمثّلُ قَطعاً مع ذهنية "الاستشراق"، لكن من الزاوية الأكثر سلطوية. فالشرق بالنسبة إليهما ساحة خالية تماماً، والمشكلة مع الجهاديين تُحلّ بقتلهم.
إدارة الرئيس أوباما، أعطت روبرت مالي، سلطة حقيقية في تشكيل الموقف الأميركي من الملف السوري. ومالي، الذي عُيّن في العام 2015 لقيادة "مكتب الشرق الأوسط" في "مجلس الأمن القومي" الأميركي، عاد وسُمّيَ مستشاراً خاصاً للرئيس أوباما، لشؤون "الدولة الإسلامية".
مالي القادم من مراكز الأبحاث أو "Think tanks" هو نموذج لتحول الباحث والخبير إلى سياسي. وتُمثلُ سيرة مالي المهنية، طموح معظم "الخبراء" و"المستشرقين" الأميركيين، رغم أنها قادمة من أرضية العلوم السياسية المتمحورة حول "فض النزاعات" بغض النظر عن محتواها. فخلفية مالي عن الشرق، غير قائمة على معرفة خاصة به؛ لا بتاريخه ولا مذهبه ولا إثنياته. تفضيل السياسة على المعرفة، هو الحلّ الأنسب لأي معالجة قاصرة، وهذا ما برعت فيه الإدارة الأميركية خلال السنوات الماضية.
البعض استهول تسلّم مالي لموقع مستشار أوباما في شؤون "داعش"، وهو الذي يكاد لا يعرف عن الإسلام شيئاً. إلا أن هذا المنصب، هو اسم فضفاض، لحل أزمات الشرق الأوسط عامة. لذا كان مالي، هو الخبير الموافق لوزير الخارجية الأميركية جون كيري، في معظم محطات اتفاقية إيران النووية.
مؤخراً،
كتب الزميل حسين عبدالحسين، في "المدن"، إن مالي في مقابلته مع "فورين بوليسي"، "أراد استثناء الأسد من الرحيل لأن البديل جهادي، ثم اعتبر أن إطالة أمد الصراع يعطي الجهاديين اليد العليا". ما يعني بحسب عبدالحسين، أن أميركا تريد بقاء الأسد، وفي الوقت نفسه القضاء على البديل "الجهادي" في أسرع وقت ممكن.
هذا الحل "الفانتازي"، لا يُقدم عليه سوى "خبير" بمرتبة سياسي، يرى بإمكانية قولبة الواقع وفق فرضية يمكن محاججة صحتها في إطروحة لـ"Think tanks" لا في الواقع.
في المقابل، يبدو الخبراء الروس، خصوصاً المستشرقين منهم، على خلاف حقيقي مع دوائر صنع القرار في الكرملين. المشكلة في روسيا، أن ألكسندر دوغين، منظّر الكرملين، يضع الخطوط العامة للسياسات، ليملأ فراغاتها السياسيون والعسكريون. في حين أخرج "المستشرقون" من دائرة الضوء نهائياً.
سام هيلر "أبو الجماجم"، يناقش في مقال له، حادثة نحر مقاتل في "حركة نور الدين الزنكي" لمقاتل من "لواء القدس" بعد شهر على حدوثها. المقال يحمل العنوان التالي: "في حرب الوكلاء السورية، بامكان أميركا أن تبقي يديها نظيفة، أو أن تقوم بالعمل". مرة أخرى، الكثير من النصائح التنفيذية لما يتوجب على الإدارة الأميركية القيام، أو عدم القيام به.
يغمز أحد العارفين بالقول، لا تستغرب المزيد من المواقف المفاجئة للمستشرقين الجدد، فالكل يبحث عن وظيفة في الإدارة الأميركية الجديدة، ولذا سيقدمون أوراق اعتمادهم، عبر محطات التلفزة وفي أبحاثهم.
لورانس.. لورانس..
تروي والدة ت. ي. لورانس، أنه في أيامه الأخيرة، كان لا يغادر غرفة الصالون. يجلس وحيداً بالساعات. عيناه مفتوحتان على اتساعهما، غائباً عما حوله.
لورانس كان قد تعرف على الشرق للمرة الأولى، أثناء بحثه الأركيولوجي، في مواقع القلاع الصليبية في سوريا. ولم يتردد حين وضع الكحل في عينيه، وغسل شعره ببول البعير، في طريقه إلى مقابلة الشريف حسين وأولاده.
لورانس المسكون بالشرق، كان قد قال عن فهم مارك سايكس للمنطقة، بإنه "من الخارج".
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها