الجمعة 2016/10/28

آخر تحديث: 07:55 (بيروت)

من "عدس" إلى حلف الأقليات: نهاية الشعبوية

الجمعة 2016/10/28
من "عدس" إلى حلف الأقليات: نهاية الشعبوية
احتكار السلطة للدولة، بات قائماً على منع الفئات الأضعف والأكثر تهميشاً، من الدفاع عن ذاتها. (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease
هيمنت ثلاثية "عدس"، علوي درزي اسماعيلي، على صراعات "القيادة القُطرية" في "حزب البعث" بين العامين 1966-1968، لتنتهي بإقصاء القيادات الاسماعيلية والدرزية من "القيادة القُطرية". ومع "الحركة التصحيحية"، هيمنت مجموعة من العلويين المنتصرين على الأجهزة الأمنية والجيش والحزب. إلا أن هذا الشكل من التهميش/الإقصاء من قيادة الحزب والجيش والأجهزة الأمنية، للسنّة أولاً، ثم الدروز والاسماعيليين، ما كان ليتم لولا تحالف أوسع، نسجه النظام، على مستوى القواعد الاجتماعية.

"شعبوية" نظام "البعث"، اقتضت توسيع قاعدته الاجتماعية عبر ضمّ شرائح واسعة، اشتملت في المرحلة الأولى على فلاحي الريف السوري بمختلف تلويناتهم المذهبية والإثنية، والذين حظوا بامتيازات "الإصلاح الزراعي". الخطوة التي بدأت في "عهد الوحدة" بين سوريا ومصر، كان الهدف السياسي منها، تهميش القوى التقليدية الريفية، أي حكّام سوريا ما قبل "الوحدة" و"البعث"، وتوزيع ممتلكاتهم على الفلاحين بشكل حيازات شخصية. "الإصلاح الزراعي"، وإن تمكّن فعلياً من إنهاء الإقطاع والزعامات التقليدية الريفية، إلا أنه لم ينتج حالة من النمو الاقتصادي وتوجيه الفائض إلى الصناعة الزراعية، بسبب صغر الحيازات وتذرذرها.

نظام "البعث" اعتمد مجموعة من التنظيمات لضبط عملية التوزيع، وتأمين منافذ للفلاحين إلى الدولة، وكان أبرزها "اتحاد الفلاحين" الذي شكّل في مراحله الأولى موازناً للسلطة التنفيذية الممثلة في تكنوقراط مجلس الوزراء. واستفادت شريحة واسعة من الفلاحين من "الإصلاح الزراعي"، خصوصاً بسبب تزامنه مع نزعة أخرى لدى النظام؛ "الدولتية". فاتساع حجم البيروقراطية، أصبح مدخلاً لضمّ المزيد من الشرائح الاجتماعية إلى "الدولة" السورية. قطاعات "الدولة" تضخمت مع الوقت، ومع نمو الجيش والأجهزة الأمنية، حتى تجاوز عدد موظفي الدولة، منتصف الثمانينيات، المليوني موظف.

شعبوية النظام المعتمدة على توزيع "إيراداته" المُقدمة كمنح وقروض خارجية؛ خليجية واشتراكية، بدأت تواجه الأزمات مع تراجع تلك المعونات، نهاية الثمانينيات. منذ ذلك التاريخ، بدأ النظام يلتهم مخزوناته، مفضلاً الحفاظ على دوره "الشعبوي"، ومعتمداً على خفض نسب التوزيع والمحاصصة، بدلاً من إجراءات عقلنة الاقتصاد والدولة.

إلا أن الأزمة المالية، مع مطلع القرن الحادي والعشرين، بدت للسلطة، غير قابلة للحل، إلا باتباع وصفات "البنك الدولي" و"صندوق النقد"، من دون توقيع اتفاق رسمي معهما. وتجسد ذلك في ما سيعرف بـ"اقتصاد السوق الاجتماعي" الذي أقرّه المؤتمر العاشر لـ"حزب البعث".

النظام كان كالسائر نائماً، بعد ذلك التحوّل. فـ"الشعبوية" لم تكن معياراً اقتصادياً بقدر ما كانت وظيفة سياسية لتوزيع الثروة بين شرائح المجتمع المختلفة. وعدا عن خسارات القطاع العام الإقتصادية، فقد كان رابحاً بالمعنى السياسي، من خلال تحالف واسع ضمّ الفلاحين وموظفي الدولة وشرائح الطبقات الوسطى. التحول الليبرالي، الذي تعود جذوره إلى "المرسوم رقم 10"، مطلع التسعينيات، بدا خياراً وحيداً منذ منتصف العقد الماضي، لدى السلطة السورية، الهاجسة بـ"التحديث" و"الإداراة"، لعقلنة "الدولة". لكن "الليبرالية" بدت نقيضاً في هذه اللحظة لـ"الشعبوية"، ومصدراً لتأزيم الوضع الاقتصادي/الاجتماعي في سوريا.

الحلّ لأزمة تضخم القطاع العام، وإن بدا تقنياً، ضرورة وأولوية، إلا أنه تغافل عن وظيفة القطاع العام السياسية ودوره كقاعدة شعبية للنظام. فالنظام القائم على التهميش السياسي لقوى المجتمعات المحلية، خصوصاً السنّية الريفية منها، كان يؤمّن ولاءها من خلال وظيفة "الشعبوية" التوزيعية. ومع انحسار الدعم الخارجي، لم يكن النظام في موقع يتيح له التخلي عن "شعبويته"، من دون تأمين الحدّ الأدنى من متطلبات السوق المفتوحة؛ كالتعددية السياسية، والانتقال إلى طور "تشاركي" جديد في الحكم. وهي أمور رفضتها السلطة تماماً.

خيار السلطة كان بفتح السوق، والدولة، أمام ما عُرف بـ"المئة الكبار" من رجال الأعمال، وضمان حقوق احتكارية لهم بالتعاقد مع قطاعات "الدولة"، أو تجاوزها. في هذه اللحظة، بدت السلطة عاجزة عن فهم أسباب شرعيتها، المتمثلة في "الشعبوية"، معتقدة بإمكانية "التحوّل الليبرالي" المتحكم به، والمحابي للأغنياء، مع الحفاظ على موقعها في قمة هرم الدولة من دون أي تنازل.

في تلك اللحظة، بدت السلطة وحيدة، تفتقر إلى الشرعية، بعدما تخلت طوعاً عن حلفائها في المجتمع، من دون تأمين قاعدة اجتماعية جديدة لها. فالانهيار الاقتصادي للطبقة الوسطى وموظفي "الدولة"، وقَبلهم للفلاحين بعد رفع الدعم عنهم، كان إعلاناً عن نهاية الطور "الشعبوي" للنظام، وتخلص "الدولة" من دورها الانتاجي والتوزيعي. وَهمُ ذلك الفعل، وإمكانية استدامته، جاءت من ثقة النظام الكبيرة في الأجهزة الأمنية، وقدرتها على ضبط الأوضاع.

الانتقال من "الشعبوية" إلى "الليبرالية" المُتحكم بها، كان حلاً سلطوياً لتجاوز أزمة الدولة المالية، عبر إقصاء المزيد من الشرائح والطبقات والمجتمعات المحلية، وإبعادهم من دائرة التوزيع والنفاذ إلى الدولة. إلا أن العلاقات الزبائنية داخل الدولة، وظهور طبقة من الأعيان الجُدد، شكّلت صمامات أمان اجتماعية، ضبطت عملية الانهيار الاقتصادي، وحدّت من نتائجه في بعض أوساط الأقليات المذهبية. في حين كانت النتائج كارثية لدى الغالبية السنّية الريفية، المفتقدة لهذا الشكل من العلاقات.

مع بدء الثورة السورية، أدركت السلطة أنها بحاجة إلى خطاب جديد، لتبرير عنفها الهائل على المحكومين. ومع اقصائها السابق لشرائح واسعة من المنتفضين عليها، وجدت ضالتها في خطاب "مكافحة الإرهاب". و"الإرهاب" هنا، هو وصف السلطة لفعل الجماعة السنية الريفية، أشد المتضررين من سياساتها الاقتصادية الاجتماعية. فبعد تهميشهم السياسي، جاء التهميش الاقتصادي، ما أنهي حالة "الرضا" المفوضة منهم للسلطة.

خطاب "مكافحة الإرهاب" بدا بحاجة، مرة أخرى، لتحالف اجتماعي جديد، فعاد "حلف الأقليات" للظهور، من خلال "حدود تسامح" كبيرة أبداها النظام للمنتفضين ضده من أبناء الأقليات، وانتاج شبكة علاقات جديدة، سُلّمت فيها صلاحيات محلية واسعة لقادة المليشيات الجديدة ضمن الأقليات، بشرط الولاء للنظام.

إلا أن "مكافحة الإرهاب" ليست سوى تعبير عن طور اقصائي استثنائي يعيشه النظام اليوم، كنقيض لـ"الشعبوية"، ضد الغالبية السنّية الريفية. ويُظهر هذا الطور سماتٍ "فاشية"، في الإقصاء الذي بلغ حدود "الإبادة" والتهجير و"التطهير الإثني" لـ"التكفيريين" و"الإرهابيين"، والمجتمعات السنّية الريفية المنتفضة.

النكوص عن "الشعبوية" ليس حالة فريدة خاصة بالدولة السورية، لكن أزمته هي رفض تطوير نموذج "تشاركي" في الدولة. فاحتكار السلطة للدولة، بات قائماً على منع الفئات الأضعف والأكثر تهميشاً، من الدفاع عن ذاتها.

الاقصاء قد يكون حالياً موجهاً ضد الريف السنّي المنتفض ضد النظام، لكنه لن يتأخر في مهاجمة قطاعات وشرائح اجتماعية أخرى، ضمن "حلف الأقليات". فالنظام في ظل عجزه عن إعادة انتاج ذاته وإقامة تحالف "تشاركي" حقيقي في الدولة، طيلة فترة الأزمة، وتفضيله الاعتماد على التدخل الخارجي الروسي-الإيراني لحمايته، سيصل إلى ذات الحائط المسدود.

وكما حدث ضمن "القيادة القطرية" سابقاً، وتدمير حلف "عدس" لصالح نخبة من مكون واحد، يبدو أن حرب مواقع جديدة ستدور رحاها قريباً. شحّ الموارد، وتكلفة الحرب المتواصلة، والمديونية للممولين الخارجيين، مع امتناع السلطة عن تشارك الدولة والمسؤولية السياسية مع قوى أخرى، وانغلاقها عنها، سيعيد انتاج الأزمة التي قادت إلى اندلاع الثورة. والعديد من الأقليات، قد يجد نفسه خاضعاً لعملية الاقصاء والتهميش، والإخراج تباعاً، من "حلف الأقليات" الحالي.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها