الأحد 2015/04/12

آخر تحديث: 15:46 (بيروت)

لا رمزيات لهذه الثورة

الأحد 2015/04/12
لا رمزيات لهذه الثورة
تمثال ابراهيم هنانو رمز وليس إشارة، رمز يعيد الى الأذهان جميع المضامين الثورية في الحرية والعدالة والكرامة
increase حجم الخط decrease
"إرفع علم ثورتك" كان عنوان الحملة التي أطلقها نشطاء سوريون، في إحيائية دخول الثورة السورية عامها الخامس. لا أحد يدري على وجه التحديد متى اتُّفق أن يكون علم الاستقلال هو علم الثورة السورية. كما أن السؤال: لماذا اختير هذا العلم؟ لن تكون الإجابة عليه أوفر حظاً، فربما كانت التجربة الليبية الموازية قد أثرت في هذا المسار؛ الليبيون ارتأوا أن يرفعوا علم ليبيا قبل القذافي، السوريون قلدوهم على الأغلب. كما أن المزاج العام لحاملي عبء الثورة السورية، أشار حينها إلى تماثل في سياق الثورتين. يمكن تعليل تسمية التشكيل السياسي الأول باسم "المجلس الوطني السوري" باستقراء مشابه. في السياق، يمكن تعليل تسمية "جمعة الحماية الدولية". وإذا كانت تسمية "الجمع" تحيل إلى ركاكة الممارسة السياسية لدى منظميها، فاعتماد العلم من قبل تشكيلات سياسية ممثلة للثورة، كـ"المجلس الوطني" و"الائتلاف" لا يحيل الى ركاكة سياسية فحسب، بل إلى فشل معرفي وثقافي كلي.

لقد كان تبني علم الاستقلال بنجومه الحُمر الثلاث، ادراكاً إحتياجياً أكثر منه إبداعياً، فعدا حالات قليلة، يمكن الحكم أن الإدراك الإبداعي في الثورة، يكاد يعتبر شبه معدوم، وأدواته التطبيقية أكثر انعداماً. كان تبني العلَم نتاج الحاجة إلى دلالة تكثيف التمايزات التي حصلت في المجتمع السوري: التمايزات الأخلاقية أولاً، السياسية تالياً.

يميّز النقاد الفنيون بين الرمز والإشارة، ويشترط بالترميز أن يكون إبداعياً يُعوض فيه المُدرك الحسي عن المُدرك الفهمي، ولا يشترط وجود علاقة عضوية بينه وبين المرموز إليه؛ فالرمز ينوب كلية عن المرموز إليه. بينما الإشارة أو العلامة لا تعرِّف عن المشار إليه ولا تزيد المعرفة به، الإشارة تدل إلى المشار إليه فقط، ولا تنوب عنه. معجزة توظيف علم الاستقلال في الثورة السورية، كمعجزة الثورة السورية نفسها، وظّف ليملأ جميع الفراغات، من دون اشتغال معرفي على أدوات الملء. فقد كانت الفراغات من الوضوح بحيث تم القفز فوقها من دون ملء أو حتى تجسير. هذا الخلط بين العلم الرمزي والعلم الدلالي، سيجد طريقه لملء فراغ أكبر؛ فبعد سنوات سيكون ملجأ الهاربين من رمزيات ودلالات جديدة فرضتها سياقات الثورة السورية.

"إرفع علم ثورتك" أيضا كان شعاراً موارباً وظَّف العلم لإعادة "التقية" الأولى متمثلة بالسلمية والحداثة، متمايزة عن رايات الأسلمة والتمويل متعدد المصادر، التي طغت مؤخراً على المشهد الميداني السوري.

لم يهتم العاملون في الثورة السورية ضد بشار الأسد، وهي صفة عمل لآلاف شباب الثورة في مواقع التواصل الاجتماعي، بإضفاء ملامح حداثية على عملهم؛ لقد تركت هذه المناحي لتأخذ أحجاماً متفاوتة في الأعمال الفنية التي رافقت الثورة ودعمتها. وكأن الإرتباط العضوي التاريخي بين المثقف العامل في الفكر، وبين السياسي، كُسر أخيراً. هذا غير صحيح، الثورة في المنحى السياسي، فضحت إفلاساً ثقافياً وفكرياً مهيناً. عملية تدمير مقومات المجتمع السوري التي مارستها السلطة تتحمل المسؤولية عنها كاملة، بالتأكيد. لكن تصحيح هذه المقومات وبناء أخرى جديدة، لا يقع على كاهل السلطة الأسدية. الاكتفاء بتحميل المسؤولية في معظم محاججاته هو هرب من عبء تحمل مسؤولية التصحيح ليس إلّا، وهو هرب أيضاً من الإعتراف بالفشل الفكري على المستويين الفردي والجماعي.

لم يناقش أحد الدلالات الرمزية لألوان العلم الذي يفترض به ترميز مضامين أعظم ثورة عرفتها الأزمنة الحديثة. مواقع التواصل الاجتماعي، كمنابر للنشر الحر، فاقمت الأزمة، وتركز النقاش حول الدفاع عن "وطنية" العلم أمام هجوم الخصوم الذين اتهموا كل ما يخص الثورة بـ"اللاوطنية"، مستندين إلى قواعد معرفية وثقافية أقل تكافؤاً من خصومهم، لكنهم نجحوا في جرّ جمهور الثورة ليخوض معارك في ملعب الخصم. في هذا السياق، وخصوصاً لدى التفكر في دلالات الألوان، تبدو رايات السلفيين، مثل "جبهة النصرة" و"داعش"، أكثر انسجاماً فكريّاً مع حامليها. الأسود، كما يفيد أحد النقّاد الفنيين، هو رمز الظلمة الأبدية، المخيف والمستور والمقنع والموت، الدمار والقبر. لم تقع الرايات السود في تصنيفات الوطنية واللاوطنية، كما لم تقع على تخفيف الانقسام الحدّي، كأن يعترف طرفا النقيض من جماهير الثورة والنظام، بعدائهما المشترك للرايات السود. ابقاء الاعتراف ضمنياً سياسة جبانة، كما كل سياسة مقوضة الأركان المعرفية. ولن نشطح كثيراً إذا صنفنا بعض دوافع المدافعين عن الرايات السود بأنها منعكسات لتمايزهم عن جمهور النظام.

منذ اسبوعين، أُخذت مدينة إدلب من يد النظام. أحد الفصائل "الفاتحة" حطم تمثال الزعيم الوطني ابراهيم هنانو، وأخذ مقاتلوه صوراً وهم يدوسون رأس التمثال! الفعل كان مدمراً للتقيّة الوطنية، وحجة أن المقاتلين لم يميزوا بين تمثال ابراهيم هنانو وتماثيل حافظ الأسد، لم ترُق لغالبية المحتجين على العمل. تمثال ابراهيم هنانو رمز، وليس إشارة، رمز يعيد الى الأذهان جميع المضامين الثورية في الحرية والعدالة والكرامة وحقوق الشعوب في تقرير مصيرها. العمل مشين فعلاً. قام به شباب في مقتبل العمر، تربوا وتثقفوا في مدارس البعثية الأسدية، ربما لم يسمع قسم كبير منهم قبل الفعل، باسم ابراهيم هنانو أبداً. أخذتهم معان رمزية لا يعرفون غيرها، رمزية خمسين عاماً من الرموز التي تحيل إلى حافظ الأسد، وتنوب فقط عن قبضته الحديدية. خمسون عاماً لم تنل من رمزية القضية الفلسطينية شيئاً، كما نالها من كراهية البعض الذين حرقوا أعلام حزب البعث من دون أن يعرفوا أنه علم فلسطين. أخذت الفاتحين رمزية صورتهم في الإعلام، يدوسون ما ظنوه تمثال حافظ الأسد محطماً. تشبيه تمثال حافظ الأسد بالصنم، وإن كان ذا مضمون ديني، لكنه محتوى رمزي بين الشرك والإيمان. الرمزية هنا كانت غائية، وكانت في جزء منها حاجة، حاجة إلى نصر ليس رمزياً، حاجة إلى الخروج من التهميش الأبدي، حاجة إلى من يستطيع أن يعرفهم على دلالات رمزية تملأ الفراغ.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها

الكاتب

مقالات أخرى للكاتب