الأربعاء 2014/03/05

آخر تحديث: 05:44 (بيروت)

سوريا: وجه ورغيف خبز

الأربعاء 2014/03/05
سوريا: وجه ورغيف خبز
أمام أحد الأفران في حلب يتجمع الناس لشراء الخبز (أ ف ب)
increase حجم الخط decrease
 لم يعد باستطاعة أي سوري قول عبارة "عايشين من قلة الموت"، تلك العبارة التي كانت تقال للدلالة على الضجر وضحالة الحياة، ربما يمكن بتحوير بسيط لها أن تعبر عن حال السوريين تماماً، "عايشين من كثرة الموت". كما لو أن هناك صلة مؤكدة بين العيش الذي لا يُشبه الحياة الحقة في شيء والموت. وإذا كان أحد أهم تعريف للانتحار الوجودي "الإنتحار هو ألا يكون الإنسان سيد نفسه"، فإن السوريين كلهم أموات على قيد الحياة، أيامهم عبارة عن تراكم زمني فقط، لا فرح، ولا أمل، ولا ثقة بالمستقبل، والكل يعد أن سنوات عجاف مقبلة، وأن القادم أعظم. 

يكفي تأمل مظاهر عادية في حياة السوريين لإدراك كيف تتدهور الحياة بسرعة، كما لو أن رمالاً متحركة تجرف السوريين نحو الهاوية، وإذا كان الساحل السوري هو الوجه المشرق –أو الأقل تشوهاً– في سوريا، فأي حال هو حال الساحل، تحديداً اللاذقية وطرطوس. يكفي ذكر أن أهم ميزة صارت واضحة في اللاذقية هي محلات الألبسة المُستعملة "البالة"، وفي شارع 8 آذار، أي الشارع الرئيسي في اللاذقية، هناك أكثر من 20 دكان ألبسة مستعملة، حتى أن أهم مكتبتين عريقتين في اللاذقية طردتا الكتب وتحولتا إلى بالة. هل هناك دلالة أعظم من هذا الأمر على تدهور الحياة وانحطاط العيش الكريم من ظاهرة تحول مكتبتين عريقتين إلى محلات ألبسة مستعملة؟
 
أغلبية السوريين في اللاذقية، نازحين أو غير ذلك، يشترون ثيابهم وأحذيتهم من محلات الألبسة المستعملة، بل إن نسبة كبيرة منهم تنتظر التنزيلات في تلك المحلات. وإذا تجرأ مواطن ليساوم صاحب المحل على تخفيض سعر القميص المستعمل والعتيق، انفجر به صاحب المحال بصراخ "نحن نشتري البالة باليورو، واليورو يساوي 200 ليرة سورية".
 
هكذا أصبحت حياة السوري تنحصر بين قطبين، محلات الألبسة المستعملة، يشتري ثيابه وثياب أولاده ، والأفران. تكفي نظرة سريعة على الأفران لإدراك أن رغيف الخبز صار عنوان حياة السوري. يبدو باب الفرن كأنه باب الجنة، وعلى يمينه رتل لا يُحصى من الرجال والصبية، وعلى يساره رتل مماثل من النسوة والفتيات، والعيون كلها متعلقة بتلك الطاقة الصغيرة التي تقذف أرغفة الخبز. 
 
ولأن كل يوم في سوريا هو إبداع جديد للذل والقهر، فإن بعض الأفران، وتجنباً للشجار الذي ينجم بين الناس بسبب الإنتظار لساعات من أجل الحصول على الخبز، ابتكرت حلاً مُهيناً عجيباص، تمثل بإقامتها جداراً حديدياً بطول إنسان، وبعرض نصف متر، موازياً للحائط ، فتجد الطابور وقد انحشر في ذلك النفق.
 
تشابه كبير بين وجوه الناس والرغيف. ثمه وجوه منتفخة من الغضب والقهر، تشبه الرغيف حال خروجه من بيت النار، ثمة وجوه ذابلة يائسة تشبه رغيفاً يابساً، وثمة وجوه متشوهة، تنقصها عين، أو اقتطع منها خداً، أو فكاً إثر شظيه صاروخ أو رشقة مواد متفجرة من برميل متفجر، تشبه كسرة من رغيف، ثمة وجوه أضناها القهر والتحمل المُزمن والألم المديد فنبت عليها وشاح من القنوط واليأس كما ينبت العفن فوق رغيف. 
 
ثمة تماهٍ لا يخفى بين رغيف الخبز ووجه السوري. صار رغيف الخبز عنوان وجوده واستمراره على قيد الحياة، هل من إهانه وجودية أكبر من أن يُختزل عيش السوري برغيف الخبز! وأي تنويع للذل هذا الذي يجعل رجالاً ونساءً يقبلون أن يُحشروا لساعات طويلة في نفق بالكاد يتسع لشخص لا يزيد وزنه عن 60 كيلو غراماً، وينتظرون لساعات كما لو أنهم يتدربون على يوم الحشر.
 
لم يعد السوري يشعر مع تفاقم وتدهور معاناته سوى بانعدام القيمة وتفاهة وضحالة حياته، حيث تحولت مدينته إلى سوق للألبسة المستعملة وإلى طاقة ترمي له كل يوم بضعة أرغفة من الخبز، أما النشاطات الاجتماعية والفنية الوحيدة فهي التعازي! 
 
كل أسرة تقدم التعازي لأسرة شقيقة عن موت أحد الأبناء، الحديث بين الناس هو اجترار للمأساة، ينتهي دوماً بالتساؤل : إلى متى ؟!، وأحياناً ينتهي بشجار وخلاف بوجهات النظر يمكن تلخيصه : من أقوى بوتين أم أوباما؟، من سيحل المأساة السورية بوتين أم أوباما؟، ما عاد أحد يبالي بالمعارضة التي لها عدة تصنيفات وارتباطات، ولا أحد يعتقد أن النظام سوف يغير شعرة من أسلوبه المعهود منذ أكثر من نصف قرن.
 
من يملك الوقت ليتأمل كل يوم وجوه السوريين الهائمين على وجوههم في سوق الألبسة المستعملة حيث توحدهم تلك الرائحة العفنه التي هي رائحة حياتهم، أو يتأمل وجوههم ينتظرون الخبز عند الأفران، يدرك أي إهانة وجودية صار عيش السوري، وكيف أن وجهه صار يشبه رغيف الخبز بكل تحولاته. من نار الغضب إلى رماد اليأس.
increase حجم الخط decrease