الأربعاء 2024/05/08

آخر تحديث: 12:37 (بيروت)

كان للخبر قيمة!

الأربعاء 2024/05/08
كان للخبر قيمة!
increase حجم الخط decrease
من بين عشرات أكشاك الصحف في الحمرا ومناطق أخرى في بيروت، لم يبق إلا ثلاثة أو أربعة. إثنان منهما يبيعان ألعاب الأطفال وأوراق اللوتو، واثنان يعتمدان على بيع الكتب الرائجة أو الكتب المستعملة وأشياء أخرى. الأكشاك أزيلت تباعاً أو أقفلت.

لم يبق "صامداً" إلا نعيم، صديق المثقفين، ومحمود السيد من الجيل الذي يعرفه قراء الصحف والمجلات، أبو رياض لا نعرف أين أصبح، وعباني افتتح محلاً للخضر والفواكه. الباعة الجوالون والوجوه المألوفة التي كانت تبيع الصحف عند إشارات السير، اختفت أو انقرضت، إذا صح التعبير، ولا يُعرف ما إذا كان اصحابها قد انتقلوا إلى مهن أخرى، أو ربما انتقلوا إلى العالم الآخر.

بالطبع هذا جزء من التحولات التي فرضتها التطورات التقنية والانترنت ووسائل الاتصال الاجتماعي. أولئك الذين كانوا يتسابقون لمتابعة ما يرد في الجريدة من أخبار سياسية ورياضية وثقافية، أو حتى التسلية بحل الكلمات المتقاطعة، باتوا يلهون ويستمتعون بالهواتف الذكية، التي بدلاً من الجريدة، تحتوي ملايين مواقع الانترنت، وآلاف الكتب والمطبوعات والأفلام والفيديوهات، في حين يتساءل الكتّاب والشعراء: "ماذا سنفعل بهذا الكم من الكتب؟"، ويقصدون مكتباتهم المنزلية الخاصّة التي يعتبرون أنها تحتل حيزاً من غرفهم أو تضيق المكان وتجلب النق. بالطبع تلك الإسئلة تأتي من ضمن أمور أفرزتها التحولات، وباتت تطيح الخواص والطقوس وأنماط الحياة السابقة.

لم يعد لبائع الصحف ما يبيعه، وهو يعرف أنه عليه البحث عن أشياء أخرى غير الصحف يبيعها لكي يستمر في البقاء. فالمسألة لا تتعلق بأزمة تتنظر الحل، بل إن المهنة انتهت. كثر لجأوا إلى بيع الأشياء الموسمية، مثل المظلات والعطور والجزادين...

"كان للخبر قيمة" قال نعيم في إحدى المقابلات، وفي ذهنه ربما أنه كان يبيع مئات أو آلاف النسخ من الصحف في اليوم، ووصلت التحولات وطوفان الإنترنت وعصر "السوائل"(زيغمونت باومان)، أن اقفلت الصحف تباعاً وحتى المجلات الثقافية والفنية، والتسلية والطبخ، ومجلات الأطفال، كلها صارت في خبر كان. ربما إذا أخذنا الأمور من جانب "نضالي" أو تنظيري، سنجد أن "العولمة الجارفة"، التي يسمونها "المتوحشة"، قضت تباعاً على ملايين الصحف في العالم. بل إن الانترنت أخذ الاعلام إلى مكان آخر، مثلما المدن الحديثة أفرزت اللامكان (بتعبير الانتربولوجي الفرنسي مارك أوجيه)، إذ أضحت علاقة الموطن بالمقهى أو المطعم أو الرصيف، عابرة، وخالية من الطقوس والتعلق والهالة. كذلك أفرز الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي نوعاً من اللا-إعلام، اللا-خبر. المجريات والأحداث التي تحصل، كأنها تعليق فايسبوكي عابر، أو كلام شفهي غير مدوّن، بالتالي غير موثق، وربما منشور بعشرات الصيغ المزيفة مع كثرة الناشرين والاتجاهات.

كانت الصحف تعتاش على الإعلانات. أتى مارك زوكربرغ وإيلون ماسك وأشباههما، فجرفا كل شيء. أقفلت الصحف، وزادت ثروات مارك وإيلون. المواقع الإلكترونية، لكي تسوق خبرها أو موادها، عليها أن تدفع لمارك الذي بين ليلة وضحاها ترتفع ثروته بالمليارات.

بائع الصحف إذ يروي ذكرياته عن أسرار مهنته ومبيعات الأمس، في الستينيات وصولاً إلى التسعينيات، يبدو أقرب إلى الأساطير والحكايات. في بلدة نائية، كانت مجلة "الشبكة" تبيع خمسين نسخة وأكثر، وكانت الأعداد تدور على المنازل كما لو أنها نسخة من فيلم محظور. بسبب خبر، كان أصحاب الأكشاك يبيعون عشرين ألف نسخة من الصحف. وفي زمن الترند، ربما لم تعد الصحف تستعمل إلا لمسح الزجاج.

في الكشك هذه الأيام، تصل ثلاث أو أربع صحف، وهي لزوم ما لا يلزم. بات بعض الأصدقاء الفسابكة، من المتمسكين بطقوس قراءة الصحيفة مع فنجان قهوة، ينتبهون إلى أنّ الآخرين، من حملة الهواتف الذكية واللابوتب والآي باد، ينظرون إليهم نظرة "إستعلاء"، بوصفهم ديناصورات من زمن غابر.

ليست الأكشاك وحدها التي أقفلت، بل انقرضت أيضاً محال الكاسيت. وصالات السينما التي كانت بالعشرات تحولت إلى مستودعات ألبسة وربما مقاهٍ، وعرض الأفلام صار ضئيلاً جداً، ربما انتقل الاحتفال بالأفلام إلى المهرجانات أو النوادي. "نتفليكس" وقبله الـ"دي في دي" والتلفزيون، نقلوا، بل دمروا هالة الصالة وطقوسها، وبات العرض في البيت، بل في شاشة اللابتوب والتلفون... وفي زمن الذكاء الأصطناعي، ما علينا سوى الاشتياق إلى زمن الحمام الزاجل.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها