الأربعاء 2024/05/08

آخر تحديث: 13:24 (بيروت)

الكتابة على الماء

الأربعاء 2024/05/08
الكتابة على الماء
increase حجم الخط decrease
التواصل مع المكان الأول غاية روحية، وكتابية، لا يمكن تجاهلها. فعلى الصعيد الروحي يحتاج المرء دائما للقاء الأصدقاء، والمعارف، ورؤية الأمكنة التي ما زالت تسكن الذاكرة، كون اللقاء يضيف الجديد، والمتغير، في ما يجري دونما توقف، خاصة وهاجسي في المكان الأول وتحولاته، ونمط شخوصه، يشكل مصداقية للنصوص التي أكتب. وبالتالي يقرّبني كل ذلك من التوازن النفسي الداخلي. توازن في زمن مضطرب، عالميّ بامتياز. وسمة العصر حقيقة أصبحت تعني امّحاء المسافات، والأزمان، في ظل التطورات الهائلة التي تحدث في عالمنا اليوم.

أبرز ما التقطته في زيارتي الأخيرة للعراق، بمدنه وقراه وشوارعه، هو الفوضى. فهناك تباين هائل بين منطقة وأخرى. حتى داخل العاصمة، تجد منطقة متهالكة مثل الحيدرخانة، وقنبر علي، وبغداد الجديدة، وتجد مناطق مفعمة بالحياة والتطور مثل الوزيرية، والكرادة، وزيونة. وهكذا تجد البشر التي تعيش على جمع القمامة، والأعمال اليومية البسيطة، وتجد الأغنياء الذين يركبون أحدث السيارات، وبدخول عالية خرافية معروف أنها من السمسرة، والتزوير، والولاءات السياسية، والمضاربات. تجد مدينة تشهد إعماراً واضحاً، وأخرى تنهار يوما بعد آخر، وهذا ما يشفّ عن عشوائية في التخطيط، وتلاعب في خطط التنمية والإعمار من قبل الحيتان الكبار من سياسيين، وموبوئين طائفيين، ومزوّرين، ورعاة صفقات مشبوهة في ظل قانون نائم، ومغيّب، ومطّاط. نعم، الدولة غائبة عن الشارع المتهالك، والبيوت غير الصالحة للسكن، خاصة في المناطق الفقيرة. وهذا ما جذب نظري في المحلات المهمشة حصراً، والشوارع الفرعية وسط العاصمة القديمة، وعند أطرافها. وكانت كثيرة فعلاً.

لكن رغم كل ذلك ثمة إحساس بأن المجتمع المدني يترسخ كل سنة، وهناك مقاومة واضحة لخنق حرية التعبير، ومقاومة ضد الطائفية، ونمو واعد لبناء الهوية الوطنية. الهوية العابرة للطوائف، والأديان، والقوميات. في مستقري بمدينة كوبنهاغن أعيش تفرغاً كاملاً للقراءة، والكتابة، والتأمل، وتخطيط الزمن القادم على صعيد حياتي الشخصية. بينما أفقد معظم تلك الأسس حين أعيش في بغداد، وغيرها من مدن الوطن. إذ أندمج مع الفوضى العامة للبلد، ولا أملك الوقت الكافي للقراءة أو الكتابة، لأنني أكون عادة مشغولا بالأصدقاء، وحضور الفعاليات الثقافية والاجتماعية، والسفر بين المدن، ولقاء أهلي في قريتي أو مدينتي. عدا ذلك فأنا أنشغل خلال زياراتي بترصد تغيرات الأمكنة، والتجول في الأسواق، والجلوس في المقاهي، لكي أعيد ما انقطع خلال فترات غيابي. وهي حالة أجدها لذيذة ومفيدة تغني عالمي الداخلي وتنوعه. كما أن انتقالاتي من مكان إلى آخر، أو من بلد إلى آخر، تضع نشاطي الثقافي في مساحة حيوية جدا تدفعني لمواصلة مشروعي الروائي، وتطوير مهاراتي الثقافية. ونحن اليوم في فضاء عالمي للثقافة والتكنولوجيا الرقمية، وتلك صارت واحدة من بديهيات العيش، ولا يهم أين يقيم الكاتب، وهذه حقيقة أيضا صرت أؤمن بها بقوة، وترشدني في الحياة، سواء حياتي الشخصية أو الأدبية.

في الأنبار وجدت الجيل الشاب أكثر اندماجاً مع الحداثة، بمعناها التقني والاجتماعي. وكانت تجربة الخروج من وطأة الفكر الديني المتطرف بليغة بين الشباب، بسبب ما عانوه من تهجير، وموت، وعدم استقرار. فالفكر الديني المتطرف يتناقض مع الحياة العصرية، وهذا ما وجدت أنهم اكتشفوه وراحوا يمارسونه ويدافعون عنهم، بشكل عام طبعا. ينطبق ذلك على شباب بغداد والمحافظات كما أعتقد، رغم الفضاء القامع المهيمن. المعروف أن جيلنا كان نخبوياً، وتقليديا في ممارسة حياته الاجتماعية والفكرية، أما الجيل الجديد فهو جيل التقنيات الحديثة، والسفر، والمغامرة. لقد خرج من إسار الانغلاق الذي عاشه البلد عقودا طويلة، وهذ هو الإيجابي في الوقت الحاضر.

المشكلة في بغداد، والعراق عموما، هو أن السياسة تهيمن على كل مفاصل الحياة. والجو السياسي، كما نعرفه وخبرناه، جو مريض وموبوء، بسبب الأحزاب المتأسلمة، والمحاصصة الطائفية والقومية في إدارة شؤون البلد. لذلك يقع الفرد، بعض الأحيان، في لجة اليأس والإحباط حين يكتشف أنه لا يستطيع تغيير هذه المعادلة. التغيير يتطلب مواصفات أساسية لدى المجتمع مثل الهوية الوطنية الجامعة، والوعي العلمي، والتنظيم، والتخطيط. وكل ذلك غير متوافر، حتى في الحركات الداعية إلى الإصلاح والتغيير، خاصة وأن القوى المهيمنة تمتلك السلاح، والمال، ووسائل الإعلام، والموروث الديني والمذهبي لإدامة الوضع كما هو عليه، لأنه وضع مناسب للسرقة، والتزوير، والهيمنة، والولاءات غير الوطنية، وتمزيق الهوية لصالح هويات غير وطنية. وتلك حالة عامة، وضاغطة على كل تفرد ومغامرة فردية تنحو إلى التمرد على السائد.

هوية العراق، سابقا ولاحقا، ليست شيوخ عشائر وقبائل. وليست في تقسيمه إلى شيعة وسنة وعرب وكرد وتركمان، مسلمين ومسيحيين. هذه التقسيمات الجيولوجية، الذريّة، موجودة لدى معظم شعوب الأرض. هوية العراق هي الفنون التشكيلية، والغنائية، والمسارح، والسينمات، والأفلام، والفولكلور، والهور، والصحاري، والجبال، والأنهار، والطبيعة. هي الطلبة، والعمال، والمزارعون، وأساتذة الجامعات، والكتّاب، والفنانون، والجيش، والشرطة، والأطباء، وكل تلك الشرائح وهمومها، وفي أي مدينة عراقية، تعاني ذات المعضلات الحياتية. وهي تمتلك، تقريبا، الطموحات والأحلام ذاتها، في حياة حرة، وكريمة، وعصرية. لكن ورغم الفوضى، والأفق المغبش، التابوتي بعض الأحيان، لا بد للمثقف أن يحلم. والشعوب لا تسكت على ظلم الاستغفال والقمع حتى وإن بدت كذلك. هي مرحلة فوضوية لا تمتلك مقومات الديمومة في ظل متغيرات عالمية هائلة لا يستطيع أحد تجاهلها. لكن الثمن للخروج من الفوضى سيكون باهظاً.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها