الثلاثاء 2024/05/07

آخر تحديث: 12:14 (بيروت)

ثقافة الردح من المنبر البعثي

الثلاثاء 2024/05/07
ثقافة الردح من المنبر البعثي
الرداح الابن
increase حجم الخط decrease
في مؤتمر حزبه، ومن كرسي منبر مفصل له وحده، "ردح" بشار الأسد ضد معارضيه، فلعب لغوياً على المفردات المتفرعة من فعل "ثار"، وقلب كلمة "ثوار" إلى "ثيران"، لينقل رفاقه البعثيين من خلال البهلوانية اللغوية إلى عتبة مختلفة عن تنظيراته "السفسطائية" المعتادة في الشؤون السياسية والاقتصادية المرسلة! 

هنا، يصبح البحث عن معنى بلا جدوى، كما لا يُحتمل العثور على رسالة، وطبعاً لا إمكانية سلفاً لتوقع إفصاح عن نيات سياسية، يمكن تلقفها للحديث عن تغيّر ما في السلوك، فهذا الإغماض عن التفاصيل، هو من صلب الأيديولوجية البعثية، والأسد يرى، كما قال، إن هذا هو زمن الأحزاب الأيديولوجية.

وهذه ليست المرة الأولى التي يقوم بها رأس النظام بمثل هذا الأمر، فقد اشتهر عنه، ومنذ خطابه الأول في مجلس الشعب، بعد اندلاع الاحتجاجات في آذار 2011، أنه لا يغادر منزلة الردح والتشفي بالسوريين الذين شقوا عصا الطاعة، وذهبوا أبعد فأبعد نحو مقاومة استبداده، وصولاً إلى المواجهة المسلحة مع جيشه وميليشياته. 


منذ انكشاف المشهد العام عن حرب ضروس بين الجهتين، حاولت الأجهزة كثيراً أن تحتفظ لبشار الأسد بموقع ما في الساحة الإعلامية، يعزز من مهابته بوصفه الرئيس، والقائد العام للجيش والقوات المسلحة، والأمين العام لحزب البعث العربي الاشتراكي، وفق معادلة تقوم على الاحتفاظ بثقل الموقع، مقابل خفة وتشظي أعدائه! لكنه كان يخرق قاعدة عدم التحدث إلا من خلال الورق المكتوب والمدروس، فيقع في شرور الارتجال، ويسقط في خفته الخاصة المميزة، وصولاً إلى محاولته الدؤوبة تقليد والده حافظ الأسد. غير أن مساعيه لارتداء الهيبة ذاتها، فشلت دائماً، وكان من المؤذي لصورته، خلال السنوات التي أعقبت إعلانه النصر على الإرهابيين ووقوع البلاد في أزمة معيشية طاحنة، أن جموع مؤيديه طالبت بالمستحيل؛ أي العودة إلى زمن الأسد الأب، بعدما أصابهم الجوع والفاقة. واشتهر في هذا السياق أن بعضهم طالب الرئيس "الخالد" بالعودة من الموت، فناداه بالاستيقاظ بوصفه "أباً للفقراء".. إلخ.

في جزء من سيرة خطابات حافظ الأسد، تبرز كومة خطابات كبيرة، ألقاها في المسيرات التي كانت أجهزة الدولة ومؤسساتها تخرجها بالتضافر مع المنظمات الشعبية، كلما احتاج أمر سياسي إلى ذلك. وفي بعض تضاعيف هذه الكلمات الطويلة، كان صاحب "الحركة التصحيحية"، يردح لأعدائه، مستهدفاً إثارة جماهير الشعب ضدهم. ومن أشهر "ردحاته" واحدة نطق بها، بعد ارتكاب جيشه مذبحة مدينة حماة في شباط/فبراير 1982، ويقوم المؤيدون بنشرها وتكرارها في صفحاتهم ومواقعهم وقنواتهم في يوتيوب وانستغرام وتيك توك، بغية مقابلتها بما جرى ومازال يجري منذ بداية الثورة. وفي هذه الكلمة الطويلة، لعلع صوت "أبو باسل" ليغطي على أصوات الجمهور في تلك المسيرة، وقال كلاماً كثيراً عن "الإخوان المسلمين"، فاتهمهم بتشويه صورة الإسلام، ونسب لهم أفعالاً شتى تحت الرداء الذي يلبسونه فقال: "هذا ما يفعله الإخوان المجرمون، يقتلون باسم الإسلام، يغتالون باسم الإسلام، يذبحون الأطفال والنساء والشيوخ باسم الإسلام، يقتلون عائلات بكاملها باسم الإسلام، يمدون يدهم إلى الأجنبي وإلى عملاء الأجنبي وإلى الأنظمة الأميركية العميلة على حدودنا، يمدون إلى هؤلاء أيديَهم ليقبضوا المال وليأخذوا السلاح (...) يقبضون المال، ويأخذون السلاح ليغتالوا هذا الوطن، ليقتلوا هذا الوطن، ليضعفوا هذا الوطن، في وقت تقفون فيه وحدكم في مواجهة أشرس عدو وأشرس عدوان".

لم يقم أحد بتحليل بُنية الخطاب الذي اتبعه الأسد الأب في كلماته السياسية، وربما يعود هذا إلى عدم رغبة المؤيدين في الخوض في ما هو "مقدس" أو "مبجل"، وكذلك كراهية المعارضين للشخصية وأقوالها. 

لكن إجراء المقاربة كاحتمال، لا بد يكشف ملمحاً عن تركيبة الشخصية الثعلبية، وذلك لجهة مصادرة الصفات والقدرة على لصقها -بحكم قوة السلاح- على المهزومين، كما يوضح توجهاً سياسياً مضمراً، تم الإفصاح عنه بعد نصره المزعوم. فقد سبق له أن صرح بكلام مختلف قبل عامين من أحداث حماه، وتحديداً في آذار/مارس 1980 حينن قال في خطاب جماهيري آخر: "الإخوان المسلمون في سوريا ليسوا جميعاً مع القتلة. بل كثير منهم، القسم الأكبر منهم ضد القتلة ويدين القتل، وهذا القسم يرى أنه يجب أن يعمل من أجل الدين ورفع شأن الدين لا من أجل أي هدف آخر. هؤلاء أيها الشباب، لا خلاف لنا معهم إطلاقاً، بل نحن نشجعهم. نحن نشجع كل امرئ يعمل من أجل الدين ومن أجل تعزيز القيم الدينية. ولهؤلاء الحق، بل عليهم واجب، أن يقترحوا علينا وأن يطالبونا بكل ما من شأنه خدمة الدين ورفع شأن الدين. ونحن لن نقصر، بل لن نسمح لأحد بأن يسبقنا في هذا المجال. ونحن نشجع مَن يعمل مِن أجل الدين، ونحارب مَن يستغل الدين لأهداف غير دينية ونحارب الرجعيين الذين يحاولون أن يستغلوا المتدينين في بلادنا لمصالحهم وأغراضهم السياسية القذرة".


يتذكر قارئ التاريخ السوري في مرحلة الثمانينيات، أن قيام الرئيس بالردح من المنابر لم يكن استثنائياً، فقد كان هو أيضاً عرضة لتلقي السباب والشتائم في جولات ردح تم تناوله فيها من قبل الرئيس العراقي الأسبق، صدام حسين، وأيضاً من قبل الرئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات. وفي العودة إلى مضامين كلمتيهما، يجد المدقق في الأمر أنهما يلصقان به الأفعال والصفات ذاتها التي يحكيها عن أعدائه الداخليين، لكن ربما يُحسب له، وبالمقارنة مع سلوكيات ابنه في وقتنا الحالي، أنه لم يعمم الصفات الشائنة على جزء كامل من الشعب السوري، بل حصر الردح في جماعة سياسية محددة هي تنظيم الاخوان، واستهدفهم في العقل السوري لأجيال عديدة عندما وضعهم في متن الشعارات اليومية لتلامذة المدارس في مراحلها كافة. فقد كان الشعار ولعشرات السنين يقول، وكجواب على نداء "عهدنا": "أن نتصدى للإمبريالية والصهيونية والرجعية، وأن نسحق أداتهم المجرمة عصابة الإخوان المسلمين العميلة".

وربما يمكن اعتبار الإبقاء على بعض العقلنة، من خلال عدم اتهام الجميع بالتآمر، التماعة استثنائية، وسط حفلة الجنون الكارثية التي صنعها النظام منذ توليه حكم البلاد والعباد في الفضاء العام السوري. لكن الأسد الابن رأى أنه ليس مضطراً لاتباع القواعد ذاتها في جولاته اللفظية التي تعكس ما يدور في كواليس قراراته. فذهب إلى تعميم الأذى، نحو اللا عودة، ومضى إلى جعل المتآمرين جراثيم مرة، وحشرات مرة أخرى، ومندسين تارة، طفيليات تارة أخرى، وصولاً إلى مرحلة الهذيان الكامل وتحويلهم إلى... ثيران.

هكذا، يختصر بشار الأسد على السوريين المسافات. فبعد هذا الإنجاز على منبر انتخابه أميناً عاماً لحزب البعث، لن يكونوا في حاجة إلى تفسير شخصية مَن حكمهم وقادهم إلى الكارثة، فكل كلمة يقولها هنا تخبر عن جوهر شخصيته وسلطته. أما عن سبب استمراره في صناعة الجحيم السوري، فهذا شأن آخر، لن يعدو دوره فيه سوى أن يكون أداة تنفيذية ناطقة.
increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها