أنفه، البلدة الوحيدة في القضاء التي تلامس البحر، تحظى بلقب "عروس البحر". تتميّز بموقع جغرافي استراتيجي منحها حضورًا تاريخيًا فريدًا. وهي تنفرد بمواقع ثقافية وسياحية تُشكل رموزًا أساسية لهويتها، حيث تحتضن آثارًا من حضارات متعاقبة، أبرزها الحضارة الفينيقية التي تركت بصماتٍ واضحة على معالمها، لا سيما القلعة التي تشهد على ارتباط عضوي بين الأرض والتاريخ.
كنيسة القديسة كاترينا
في جولة نظمتها "جمعية أصدقاء الطبيعة"، كان لـ "درب أنفه الثقافي" حيّزاً للغوص في أبرز تفاصيل المعالم السياحية في البلدة. من السياحة البيئية وصولاً إلى السياحة الدينية والثقافية تبدأ رحلة استكشاف هذه البلدة بالمغاور الطبيعية، التي تتوارى في ثنايا صخورها أسرار الزمن. وكان أبرزها مغارة "الشق". فهي الأوسع والأكثر إنارة بفعل تشققات صخرية، تسمح للضوء بالتسلل بخفة منها. وبدت هذه التشققات أشبه بنوافذ على الماضي: عظام وفخار ومتحجرات تحكي عن الإنسان القديم. من هنا مرّ أجدادنا وتركوا أثراً بلا عنوان، في انتظار من يكشف تاريخهم الغائب.
وعلى مقربة من البحر، كانت ولا تزال كنيسة "سيدة الريح" تبارك البلدة منذ العصور الوثنية، وتنتصب كنيسة "القديسة كاترينا" بهيبتها الصليبية، وبنوافذها غير المتساوية كأنها تقول لنا إن "لا كمال إلا لله". ويعلو القسم الخارجي للكنيسة "نافذة الوردة" الدائرية، وقطرها الأكبر بين الكنائس الصليبية في الشرق الأدنى. يتسلل النور الناعم عبرها، كأنه صلاة من حجر. وقد صُنفت الكنيسة إرثًا تراثياً، وشاهدًا على التاريخ، الذي يتنفس بين جدرانها.
وتكتمل لوحة أنفة بمحميتها البحرية، حيث يلتقي الرأس الصخري بالخليجين الشمالي والجنوبي، في مشهد طبيعي نادر. وتتنوّع الحياة تحت الماء، من أعشاب وأصناف بحرية نادرة. وعلى البرّ ترتفع الآثار لحضارات متعاقبة، منذ ما قبل التاريخ وحتى عصر الملاحات.
الملاحات حرفة طبيعية
في أنفه، تتلاقى الشمس والبحر والصخر لصياغة حكاية موروثة من الأجداد. على الشاطئ الصخري الرملي، تنتشر ملاحات محفورة يدويًا تشكّل مدرجات ومربعات تُملأ بمياه البحر. ومع تبخر المياه يترسّب الملح الأبيض النقي ككنز طبيعي.
لم تكن هذه الصناعة مجرد وسيلة إنتاج، بل ساهمت في إعادة تشكيل ملامح الشاطئ، خصوصاً مع دواليب الهواء التي تضخ المياه وتُضفي لمسة جمالية فريدة على المشهد.
هذه الحرفة المعتمدة بالكامل على الطبيعة، شكلت مصدر رزق للسكان، وأصبحت جزءًا لا يتجزأ من هوية أنفه. ولا تزال ملاحاتها القديمة تحتفظ بهياكلها التراثية ونظامها الذكي في تجميع المياه، وتكشف في بعض زواياها متحجرات مدفونة وشواهد جيولوجية تحكي تاريخ البحر.
تتميز الملاحات في أنفه بطابع تراثي وسياحي وإنتاجي. ويعود تاريخ إنتاج الملح فيها إلى أكثر من قرن. وبين العامين 1975 و1990، كانت أنفه تنتج ما يصل إلى 70 ألف طن من الملح سنويًا، في حين بلغ إنتاج لبنان حينها نحو 250 ألف طن. لكن في السنوات الثلاث الأخيرة، بدأت آثار التغير المناخي تنعكس على الملاحين، الذين خسروا ما يُعادل واحد من خمسة من الإنتاج خلال الأشهر الخمسة المشمسة من السنة.
تنقسم ملكية الملاحات في أنفه بين ثلاث عائلات: آل سليمان، وآل نجار، وآل مالك، التي تمتلك آخر الملاحات التي تعمل بالطريقة التراثية، والتي تغطي مساحة تُقدر بـ16 ألف متر مربع.
مشروع يهدد "الذهب الأبيض"
لكن هذه الملاحات تواجه خطرًا محدقًا يتمثل في مشروع "إنماء الناطور" المخطط له على طول الشاطئ الأنفوي. ويشير منتج الملح جورج سليمان، أحد اثنين من الجيل الثالث من المنتجين في البلدة، إلى أن "الحديث عاد عن مشروع يشغل 900 ألف متر مربع من مساحة الدير، ولا يُبقي سوى 80 ألف متر مربع لحرم الدير والملاحات".
ويضيف أن المطران الراحل إلياس قربان أعطى في وقتٍ سابق إذنًا لوصل شرق المشروع بغربه. والخطورة لا تكمن في مساحة المشروع فحسب، بل بما قد ينتج عنه من تلوث بيئي وعمراني قد ينعكس على نظافة الإنتاج، خصوصًا مع احتمال رمي النفايات في البحر قرب الملاحات.
بدوره، يؤكد عضو المجلس البلدي الحالي عمر عويجان أن البلدية الجديدة لم تناقش المشروع حتى الآن، وأنه لم يُدرج على جدول أعمال المجلس السابق لأنه لم يكن قيد التنفيذ حينها.
يُذكر أن المشروع طُرح لأول مرة العام 1998 من قبل شركة "الناطور للإنماء" التي يرأسها جاك صرّاف وعبدالله الزاخم، إلى جانب النائب الراحل موريس فاضل، والوزير الراحل شوقي الفاخوري. كما دخل النائب السابق محمد الصفدي في شراكة مؤقتة، إلى جانب النائب الراحل فريد مكاري، الذي يمثله اليوم نجله نبيل مكاري في الشركة. وقد تم توقيع اتفاق مع أبرشية طرابلس والكورة وتوابعهما للروم الأرثوذكس لاستثمار أراضي "سيدة الناطور" لمدة 99 عامًا، بهدف إنشاء منتجع سياحي وميناء لليخوت.
انخفاض الإنتاج وكلفته
تراجعت القدرة الإنتاجية للملح الطبيعي في أنفه، لتتراوح بين 200 و250 طن من أصل 400 ألف طن يُستهلك محليًا. ويقول سليمان إن "الملاحات تعاني من نقص في الأيدي العاملة، فيما ساهم غياب الضرائب والرقابة على الملح المصري المستورد، بعد اتفاقية التجارة العربية، في ضرب هذه الصناعة".
ويضيف أن كلفة إنتاج الطن المحلي تصل إلى 125 دولارًا، في حين يُباع الطن المستورد بأقل من 100 دولار. ما يجعل الاسترزاق من هذا القطاع أمرًا شبه مستحيل. ويعزو سليمان تراجع عدد الملاحين بعد العام 1990 إلى هذه الأسباب.
رغم شهرة أنفه كمركز لإنتاج الملح وموقع تراثي وثقافي وسياحي، إلا أن العاملين في هذا المجال لا ينتمون فعليًا لأي وزارة رسمية. ويؤكد سليمان أن "لا أحد يعرف ما إذا كنا تابعين لوزارة الأشغال أو الزراعة أو الثقافة، ما يعني غياب مرجعية واضحة".
ويذكّر أنه "عالميًا، يُفترض أن يتبع إنتاج الملح لوزارة الزراعة، لكن البعد التراثي والحضاري للملاحات يضعها ضمن اختصاص وزارة الثقافة"، داعياً الحكومة الجديدة، إلى"اعتراف رسمي بهذا القطاع الإنتاجي ليُسهّل أمورنا ويضمن استمرارية مهنتنا".
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها