منذ بداية العدوان في تشرين الأول 2023، نزح أكثر من 1.2 مليون شخص، توزّعوا على بيوت أقارب، أو مراكز إيواء سرعان ما امتلأت، أو لجأوا إلى استئجار منازل بأسعار مضاعفة. ومع العدوان الإسرائيلي في شهر أيلول الفائت، كانت موجة رفع بدل الإيجارات قد بدأت في معظم المناطق الآمنة، خصوصاً في بيروت، الشوف، عاليه، صور، وصيدا، حيث ارتفعت أسعار إيجارات الشقق المفروشة بنسبة 45 إلى 60 في المئة، وفق دراسة أجراها "ستوديو أشغال عامة".
استغلال وطرد جماعي
غياب أي رقابة على سوق الإيجارات، والتخلّي الكامل عن دور البلديات، فتحا الباب أمام موجات طرد جماعي للمستأجرين منذ اندلاع الحرب في تشرين الأول 2023. لم يقتصر الدمار على الجبهات والمرافق العامة، بل امتدّ إلى تفاصيل الحياة اليومية، وعلى رأسها السكن. وجد النازحون أنفسهم في مواجهة خيارات محدودة ومكلفة، وسط غياب شبه تام للسياسات الحمائية الرسمية. وبين من لجأ إلى الإيجار، أو إلى أقارب، أو إلى مراكز إيواء بلغت طاقتها الاستيعابية القصوى 95 ألف شخص فقط، برزت مشكلات حادّة طالت الجميع بلا استثناء: لبنانيون، لاجئون سوريون وفلسطينيون، عاملات أجنبيات ومقيمون بجنسيات متعددة.
ترافق النزوح مع ارتفاع أسعار الإيجارات السكنية، ومع إخلاءات قسرية، وإقصاء ممنهج لغير اللبنانيين من خطط إيواء الدولة، وهذا شكّل أزمة سكنية مضاعفة. إذ ارتفعت الإيجارات في المناطق "الآمنة" بنسب تراوحت بين 45 و60 بالمئة. أما متوسط إيجار الشقة المفروشة (100 متر مربع)، فارتفع من 300 إلى 500 دولار في الضواحي، وتجاوز 1000 دولار في بعض مناطق بيروت.
في هذا السياق، توضح لمى أبو إبراهيم، باحثة في " ستوديو أشغال عامة"، لـ"المدن" أن "السكن غير مكرّس كحق، والحرب أظهرت ذلك من خلال رفع الإيجارات، والتضييق على المستأجرين بهدف طردهم واستبدالهم بنازحين بأسعار أعلى. هذا النموذج يستنزف مدخرات الجميع ويهدد الأمن السكني للجميع".
وتضيف: "بشكل ممنهج، جرى طرد سوريين من مراكز الإيواء، فيما خُصصت أعداد قليلة لاستقبالهم، منهم مدرستان من أصل 13 مدرسة في طرابلس. كما طُرد نحو 600 شخص من مبانٍ عامة أو خاصة لجأوا إليها بسبب غياب البدائل، وبعضهم أُخرج قسراً من حدائق عامة بواسطة الأجهزة الأمنية، بحجة التعدي على الأملاك العامة".
وتتابع: "أكثر من 4200 عائلة تلقّت إنذارات بالإخلاء منذ بداية الحرب، بينهم 1100 عائلة غير لبنانية. وكل هذه المؤشرات تؤكد هشاشة مفهوم الحق بالسكن في لبنان، ودور الدولة التي لا تتحرك إلا لحماية فئات محددة ولغايات سياسية".
الفوضى العقارية.. بلا سلطة محلية
تُقدَّر الأضرار في القرى الحدودية الجنوبية بما بين 5200 و5800 وحدة سكنية مدمّرة أو غير صالحة للسكن. وتشير أرقام الصليب الأحمر اللبناني إلى أن نسب التدمير في بلدات مثل عيترون، مارون الراس، رميش، ويارون تراوحت بين 60 و85 بالمئة من الأبنية، ما حوّلها فعلياً إلى مناطق منكوبة. وفي بعض القرى التي نُصبت فيها بيوت جاهزة، بدأ استهدافها من الطيران الإسرائيلي، ما أدى إلى تفريغها مجدداً. ما يزيد المخاوف من منع العودة على المدى الطويل، وتحويل النزوح إلى واقع دائم.
وتؤكد أبو إبراهيم أن "الدمار الذي خلّفته الحرب الأخيرة يفوق ما شهدناه في تموز 2006، لا فقط من حيث الحجم، بل في طبيعته أيضاً. فقد جرى القضاء على الحيز العمراني والاجتماعي بشكل واضح، ومنع شبه تام لأي مظاهر حياة في بعض القرى. ويترافق الأمر مع نية تهجير طويل الأمد، أو حتى دائمة، كما يظهر في المناطق التي تتعرض فيها البيوت الجاهزة لاستهداف منتظم".
حتى مطلع نيسان، كانت نحو 13 بلدة حدودية قد أُفرّغت بالكامل من سكانها، من بينها رميش، عيترون، بنت جبيل، وطيرحرفا، وسط غياب أي مسار واضح للعودة أو خطة لإعادة الإعمار. وتضيف أبو إبراهيم: "لا توجد أي خطة رسمية لتأمين سكن بديل. لا دعم مالي مباشر، لا بدل إيجار، ولا حتى مسودة قانون أو مشروع يُناقش في الحكومة أو البرلمان. الناس تُركت لمصيرها، فيما البيوت الجاهزة التي نُصبت كحلّ مؤقت، صارت بدورها هدفاً للغارات".
حلول غائبة بانتظار السياسة
في ظل غياب التشريعات، تتقدّم فوضى السوق العقاري. لا سقف للأسعار، ولا آلية لضبط الطرد الجماعي من السكن، ولا حماية للمستأجرين. تقول أبو إبراهيم في هذا السياق "ثمّة ضرورة لسنّ قانون عاجل وشامل للسكن في المجلس النيابي لحماية السكان. على أن يترافق مع حلول سريعة يمكن القيام بها من قبل السلطات المحلية ضمن صلاحيتها مثل اتخاذ إجراءات لضبط فوضى الإيجارات، وفرض قواعد تحمي الناس، ومراقبة عقود الإيجار، ومنع الطرد العشوائي".
كل المؤشرات تدلّ على أن أزمة السكن في لبنان لم تعد أزمة مؤقتة ناتجة عن الحرب، بل هي حلقة في سلسلة ممتدة منذ سنوات، ظهرت مع أزمة الليرة، وانفجار بيروت، وبلغت ذروتها اليوم مع العدوان الإسرائيلي. واللافت أن كل هذه الكوارث لم تُنتج أي سياسة سكنية شاملة. هذا فيما الحقوق الأساسية للسكن تُعامَل في لبنان على أنها "ترف". فلا نقاش جدياً يفتح حول إصلاح منظومة الإيجارات، أو حماية الفئات الأكثر هشاشة، أو حتى تفعيل قانون "الإسكان الطارئ" الذي نام في أدراج اللجان النيابية منذ عام 2022. هذا رغم أن حل أزمة السكن أبعد من مجرد خطط إيواء. فالمطلوب تغيير سياسي يكرّس السكن كحق جماعي، وليس كامتياز محكوم بالجنسية أو الولاء أو القدرة على الدفع.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها