هذه الانتصارات لم تكن عشوائية أو طارئة. كانت امتدادًا لسنوات من الجهد اليومي: مبادرات محلية خلال الأزمات، تنظيم مجتمعي، معالجات واقعية لقضايا النفايات، والمياه، والسكن. هؤلاء المرشحات والمرشحون لم يظهروا فجأة بشعارات برّاقة، بل جاؤوا بسِجلّ طويل من القرب والانخراط مع المجتمعات التي ينتمون إليها.
ما ميّز حملاتهم وحملاتهن لم يكن غياب الانتماءات السياسية - فالتشابك مع القوى السياسية لا يزال واقعًا لا مفرّ منه في لبنان- بل إن الشرعية التي حملوها كانت من نوع مختلف. صحيح أن بعض اللوائح خاضت المعركة تحت أعين القوى التقليدية، وفي بيئات لا تزال فيها الزبائنية السياسية تفرض نفسها، لكن هذا لم يكن هو المشهد الوحيد. في أماكن عديدة، دعم الناس مرشحين ومرشحات برهنوا وبرهنّ على مدار السنوات أنّ التغيير يمكن أن يبدأ من الداخل، حتى إن لم يكن بالكامل خارج عن المنظومة.
قوّة الدفع الشعبية
ما جمع بين هذه التجارب كان تركيزها على التضامن لا الاستعراض. كما عبّر جورج عبود، رئيس بلدية شكا: "الحملة الميدانية، وزيارات العائلات، ووسائل التواصل الاجتماعي لعبت دورًا أساسيًا وساعدت الناس على كسر الخوف من انتخاب وجوه جديدة وبرامج جديدة".
يشير عبّود إلى أن الوحدة حول مشروع مشترك هو ما منح تجربتهم قوة دفع شعبية، على الفعل لا الخطاب. لم تكن حملاتهم فوقية أو مصمّمة في غرف مغلقة، بل ناتجة عن تخطيط جماعي وانخراط حقيقي مع احتياجات الناس. لم يصوّت الناخبون والناخبات للأسماء فقط، بل للمشاريع، للرؤى، وللمسؤولية المشتركة.
ومع ذلك، لا أحد يتوهّم. المجتمع الذي صوّت لهؤلاء القادة والقائدات الجدد ليس غافلًا. الناس منحوا ومنحن ثقتهن وثقتهم، لكن بشروط. الرسالة واضحة: هذه فترة اختبار. مرحلة مراقبة دقيقة. الثقة الممنوحة اليوم ليست دائمة، بل مشروطة بالتمايز عما سبق، بالقدرة على الإنجاز، وبالتمسك بالمصلحة العامة لا الشخصية.
التوقعات من القيادات الجديدة
المواطنون لا يريدون نسخًا مكرّرة بأقنعة شبابية أو بلغة إصلاحية مستهلكة. تقول د. ليندا غصن حاموش، نائبة رئيس بلدية المنصورية، المكلس، الديشونية: "تجرّأنا نحلم، وثقتنا بنفسنا وحبنا لمنطقتنا خلّى الناس يوثقوا فينا ويترجموا ثقتن نهار الانتخابات"، ما يعكس حجم التوقعات تجاه القيادات الجديدة. يريدون حضورًا فعليًا، شفافية، والتزامًا حقيقيًا. يريدون أن يشعروا بأن هذه الوجوه لن تخذلهم وتخذلهن كما خذلتهم وخذلتهم السلطة مرارًا في السابق. يريدون أن يصدّقوا، لكنهم لن ينتظروا طويلًا.
هذه الثقة الهشّة، رغم كل شيء، تحمل قوة لافتة. ليست ناتجة عن أوهام، بل عن تعب جماعي من الإقصاء والفشل. ورغم أن هذا التحوّل لا يزال محدودًا ببعض البلديات، فإن نماذج مثل بلدية القصيبة، حيث قال جورج نعمة الله سلوم، رئيس بلدية القصيبة "بإرادتنا نصنع مستقبلنا"، تؤكد أن التحول ممكن حين تكون الإرادة مشتركة، وتكون القيادة على قدر الثقة. فيما تستمر السيطرة السياسية التقليدية في أخرى، إلا أنه يفتح الباب لسؤال جديد: ماذا لو أمكن أن يكون هذا هو النموذج القادم؟ ماذا لو أصبح التمثيل مبنيًا على العمل والخدمة، لا على الوراثة والانتماء؟
الخرق لم يكن شاملًا، لكنه حقيقي. وإذا التزم هؤلاء القادة والقائدات بوعودهم ووعودهن، واستمرّوا واستمررن في الإصغاء، ورفضوا ورفضن الانجرار إلى الطرق القديمة نفسها، فقد يثبتون ويثبتن أن التغيير لا يحتاج دائمًا إلى ضجيج كبير—بل فقط إلى الحضور والاستمرارية والصدق.
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها