الثلاثاء 2025/05/06

آخر تحديث: 18:41 (بيروت)

انتحرت من الطابق الثامن: من قتل تيسفانيش أتوما؟

الثلاثاء 2025/05/06
انتحرت من الطابق الثامن: من قتل تيسفانيش أتوما؟
قانون العمل اللبناني لا يشمل العاملة بالخدمة المنزلية ولا يحدد لها أطرًا قانونية تحميها (عباس سلمان)
increase حجم الخط decrease
حملت تيسفانيش أتوما (26 سنة) من التابعية الأثيوبة كتاباً وأدت صلاتها. أنهت صلاتها، ثم قفزت. لم تطلب شيئًا. لم تصرخ. لم تتوسّل. جرت محاولات لثنيها. لكن قرارها بالانتحار كان أقوى من كل المحاولات. كأنها لم تقفز من الطابق الثامن نحو خلاصها، بل من تسعة أشهر من الغربة عن وطنها ومن الخذلان والعمل في ما يسمى "الخدمة المنزلية" الذي تحول بسبب ظروف الاستقدام والعمل، إلى نظام "عبودية حديثة"، كما تصفه منظمات حقوق الإنسان.

وقائع الانتحار
في التفاصيل التي حصلت عليها "المدن" حول حادثة الانتحار التي وقعت يوم أمس الاثنين في منطقة عين الرمانة، اعتلت أتوما شباك الغرفة ونزلت إلى حافة صغيرة في الطابق الثامن من مبنى عبد الساتر خلف مجمع غالاكسي في عين الرمانة. كانت تحمل كتاباً وتصلي. وصلت فرق الدفاع المدني وحاولت النزول من سطح المبنى على الحبال. بالموازاة كان أصحاب المنزل وفريق الدفاع المدني يحاولون ثنيها. حاولوا بطرق عدة. استعانوا بأشخاص يتحدثون لغتها. لكنها لم تنصت لهم. بل أنهت صلاتها وقفزت إلى خلاصها. أما الرواية التي سيقت بعد هذه الواقعة فهي أنه منذ مجيئها إلى لبنان بدا أنها تعاني من مشاكل نفسية. والمراد تبرير الأمر بأنه مجرد انتحار لأسباب نفسية. قد يكون الأمر كذلك. لكن إذا أخذنا طرق استقدام العمال إلى لبنان وظروف عملهم وعدم خضوعهم لقانون العمل، تكون "الحالة النفسية" مجرد أسباب تخفيفية لمعاناة العمال الأجانب الذين يتم استقدامهم للعمل في الخدمة المنزلية بما يعرف بـ"نظام الكفالة". 

قبل أن تهوي وتصطدم بجدار الإسمنت، بدلاً من الإسفنج الذي وُضع في الأسفل، كانت قد غادرت هذا العالم معنويًا منذ أن وطأت أقدامها أرض لبنان في أيلول الماضي. جاءت قبل اندلاع الحرب بأيام، تحمل أملًا في فرصة، فوجدت نفسها رهينة نظام الكفالة، نظام عبودية مُقنّعة، غير منصوص عليه في القوانين، يُقيّد العاملة بسلسلة من الإذلال اليومي تحت مسمّى "الإقامة الشرعية". لا يحق لها الخروج إلا بإذن، ولا أن تغيّر عملها، ولا أن تعترض، ولا حتى أن تحلم. ولا يحق لها، بطبيعة الحال، أن تعيش - قبل الموت - بكرامة.

اللائحة تطول... والوجع لا يُحصى
منذ عقود، يعيش العمال الأجانب في لبنان تحت سقف من الانتهاكات الصامتة. ظروفهم اليومية، كما تصفها منظمات حقوق الإنسان، ليست سوى نسخة معاصرة من العبودية المقنّعة: أجور زهيدة، ساعات عمل بلا نهاية، وإقصاء كامل عن حماية قانون العمل اللبناني. لا حق في التنقّل، لا أفق لتغيير الكفيل، ولا سبيل للاعتراض.

هؤلاء ليسوا قلّة. أكثر من 250 ألف عامل مهاجر مسجلون رسميًا، يعملون في البيوت، في تنظيف المؤسسات، في الزراعة وفي ورش البناء. يعيشون في الخفاء، ويُعاملون كسلعة وظيفية، لا كبشر. منذ انفجار الأزمة الاقتصادية عام 2019، تفاقمت أوضاعهم إلى حد الانهيار: الأجور التي كانت تُدفع لهم بالدولار أصبحت "ترفاً"، لا يتجرأ أحد على منحها. بعضهم لم يتقاضَ راتبًا منذ شهور، وبعضهم حُرم حتى من العودة إلى بلادهم.

تيسفانيش ليست الأولى، ولن تكون الأخيرة. في عام 2019، ألقت روحي جارجيه، العاملة الغامبية، بنفسها من شرفة منزل مخدومتها في بشامون، وفارقت الحياة بعد أيام في المستشفى متأثرة بجراحها. وفي العام نفسه، هوت إيلام حتوما بيشيبتو من الطابق السابع في تلة الخياط، وارتطمت بشريط غسيل في الطابق الخامس.

في طرابلس، عام 2012، شنقت رينكا ماغار، العاملة الإثيوبية، نفسها داخل المنزل الذي كانت تعمل فيه، بصمتٍ لم يقطعه سوى حبل الألم الطويل. أما ديشاسا ديسيسا، فمشهد تعنيفها الوحشي أمام القنصلية الإثيوبية في بيروت لا يزال محفورًا في ذاكرة اللبنانيين، لمن لا تزال له ذاكرة. بعد أيام من الفيديو، أنهت حياتها في مستشفى للأمراض النفسية. واللائحة تطول...

الانتحار لا يأتي من الفراغ
في زمن الانهيار، تغيّرت المعاملة كما أسعار السوق. لا أجور، لا دولارات، ولا حتى رواتب باللبناني دفعت. وفي الحرب الأخيرة، ترك بعض اللبنانيين العاملات خلفهم، كما تُترك الأدوات المنزلية غير الضرورية. غادروا، وأغلقوا الأبواب عليهن بلا ماء، بلا طعام، بلا هواء. بعضهن لا يزلن محتجزات في منازل أرباب عملهن منذ سنوات، مسجونات خلف ستائر الصمت، لا أحد يسأل، ولا أحد يجيب.

تقول الأخصائية النفسية وردة بو ضاهر لـ"المدن" "الانتحار لا يأتي من فراغ"، مشيرةً إلى أن هناك عوامل متعددة تقود إلى هذا القرار المأساوي، من بينها التحرش، الضرب، سوء المعاملة، الخوف المزمن، أو اضطرابات نفسية لم تجد من يلتفت إليها. وتضيف "الانتحار هو وجع بلغ الذروة. عندما يرمي شخص بنفسه، لا يكون قراره وليد لحظة، بل نتيجة تراكم وجع سنوات، وجع لا يُحتمل".

قضاء عاجز... ونظام قاتل
نظام الكفالة في لبنان لا يستند إلى أي مادة دستورية أو قانونية، بل إلى بعض الأعراف الإدارية التي تطبق من قبل الأمن العام. وُضعت بذريعة "تنظيم" دخول العمال الأجانب فصارت تقيد حريتهم والكفيل بمثابة الإله الصغير في هذه المعادلة: يملك، يأمر، يُذلّ، ويمنع.

يقول المحامي نيكولا نصرالله لـ"المدن" إن "لا قانون يرعى نظام الكفالة. العاملة في الخدمة المنزلية تعمل لدى رب عمل، لكن قانون العمل اللبناني لا يشملها ولا يحدد لها أطرًا قانونية تحميها، سواء قررت المغادرة، أو طالبت بأجرها، أو بتعويضها. لا يوجد نص قانوني يرعى وجود الخادمة المنزلية في البيت". 

ويضيف أن "الجهات الرسمية تعتمد في هذا المجال على تعاميم إدارية تصدر في معظمها عن الأمن العام. كما صدر عن وزارة العمل، منذ سنوات، تعميم ينصّ على منح العاملة المنزلية يوم عطلة أسبوعي، وتحديد ساعات العمل اليومية، لكن هذه الإجراءات لا تُطبّق فعليًا".

ومن أبرز سيئات نظام الكفالة، بحسب نصرالله، أن "العاملة تكون تابعة مباشرة لكفيلها، ومصيرها مرتبط به بالكامل. فإذا لم يجدّد لها الكفيل إقامتها، تُعتبر مخالفة، ما يجعل إقامتها منتهية الصلاحية ومعرضة للترحيل إذا لم تجد كفيلًا بديلًا".

التعامل معهن بسطحية
في تقارير سابقة لمنظمة هيومن رايتس ووتش جرى تُوثّيق وفاة العديد من العاملات. ونشرت أن العاملات "بلا حماية" كاشفة أن "القضاء اللبناني يتعاطى مع وفيات العاملات بسطحية: يسأل القاضي "شو صار؟"، يرد الكفيل "انتحرت"، فيكتفي. لا معاينة، لا جيران، لا تقارير. فقط ختم "انتحار"، وانتهت الحكاية.

من قتل تيسفانيش أتوما، ومن قبلها؟ القاتل ليس فرداً، بل نظام متكامل، بوجوهٍ متعددة: النظام الذي يشرّع العبودية المقنّعة، والأمن العام الذي يحرسه، والكفيل والقضاء الذي ينام على الملفات، والإعلام الذي ينسى الحدث بعد يوم على وقوعه، والرأي العام الذي يمرّ فوق الجثث دون أن يلتفت.

في لبنان، لا تموت العاملة الأجنبية وحدها. تموت معها الحقيقة، ويُدفن معها السؤال. لا ترحل تيسفانيش وحدها، بل تترك خلفها علامة استفهام يتيمة: من قتلها فعلياً؟ المؤكّد أن القاتل ليس علو الطابق الثامن عن الأرض. 

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها