الخميس 2025/05/22

آخر تحديث: 11:56 (بيروت)

لماذا انتهت الانتخابات البلديّة إلى ما انتهت إليه؟

الخميس 2025/05/22
لماذا انتهت الانتخابات البلديّة إلى ما انتهت إليه؟
تخاض الانتخابات بشعارات للاستهلاك ولم تقترن بنيّة حقيقية في التصدّي للمشكلة وحلها (علي لمع)
increase حجم الخط decrease
كيف انتهت الانتخابات البلدية من فرصة حقيقية لانتخاب فرق عمل متضامنة وكفوءة وقادرة على ملاحقة حاجات المناطق، في ظل اهتراء إدارات الدولة وأجهزتها الخدماتية والشكوى الدائمة منها، إلى ما انتهت إليه من تكريس لتنافسات محلية على أسس شخصية وعائلية وحزبية ضيقة من دون مبادرة إنمائية حقيقية واحدة؟

هبطت علينا الكثير من البرامج الورَقية المُبهمة التنفيذ والادارة والتمويل وغالبًا الجدوى، وكأنها أقرب إلى قوائم التمنيات wish lists منها إلى المشاريع الواقعية الصغيرة القائمة على دراسات جدوى علمية واقتصادية حقيقية. ومعظمها من طبيعة أنسخ وألصق copy and paste عن بعضها البعض أو عن نماذج مُعَدّة سلفًا بالتأكيد لعصر ما-قبل الذكاء الاصطناعي!

قليلٌ من الخطط الواقعية المتواضعة ولكن التي تحتاجها المجتمعات المحلية كانت كافية لفتح سباق التنافس بين المرشحين واللوائح أمام جمهور بحاجة تقريبًا إلى كلّ شيء. لم يكن من داعٍ لتكبير الحجر الذي بطبيعة الحال والأحوال لن يصيب!

انتخابات عادية وشعارات مزيفة
خيضت الانتخابات البلدية هذه السنة في معظم المناطق كما لو أننا في الخمسينات أوالستينات أو السبعينات من القرن الماضي. مجرّد فرصة لتقدّم عائلات على أخرى في الوجاهة والحظوة أو هي تكريس لهذا التقدّم. ودخلت الأحزاب على الانتخابات لا لتقدّم نماذج إدارية محلية مختلفة أو حتى سياسية مشروعة وإنما لتكريس هذا التنافس العائلي شرط تحقيق مقعد يميل إليها هنا أو هناك، تتباهى فيه على غيرها من الأحزاب!  فهي فعليًا في ظل قانون البلديات الحالي، المصرَّة عليه، غالبًا لن تستفيد من هذه المقاعد ولن تُفيد. إلا إذا اعتبرت مُباهاتها هذه  مساهمة مبكرة في رصيد حملتها الانتخابية النيابية السنة القادمة، ومحطة لتزييت ماكينتها الانتخابية وضخ الحيوية والنشاط فيها وفحص جهوزيتها تحضيرًا للربيع المقبل.

في المدن الكبيرة، حيث يجب أن يطغى التنافس السياسي والحزبي على المحلي والعائلي، كان الوضع أشد سوءاً، أيضًا  لم تقدّم الأحزاب ممارسات مختلفة مقنعة، تؤشر إلى نضج في فهم ما هو مطلوب اليوم من المجالس البلدية فعلاً. بالعكس أُغرقت الانتخابات في شعارات مزيّفة تعمّد السياسيون الترويج لها، كتمثيل الأقليات في طرابلس والمناصفة الطائفية وصلاحيات المجلس والمحافظ في بيروت، على حساب البرامج والمشاريع التنموية المنتظَرة.

هي شعارات مزيّفة وغير حقيقية لسببين: الأول أنها شعارات للاستهلاك فقط ولم تقترن بنيّة حقيقية في التصدّي للمشكلة التي افتعلتها، وقد كان لديها فرصة إجراء تعديل مرّة لكلّ المرّات في القانون يزيل سيف الابتزاز المسلّط، ويجترح حلا مشرّفًا لها، ولكنها لم تفعل.

والثاني والأهم أن المجالس البلدية لديها وظائف كثيرة وهامة ولكن ليس بينها تمثيل الناس والعائلات والأحزاب والطوائف. إنه دور المجلس النيابي إلى جانب التشريع. بينما البلديات هي مجالس تنفيذية من متطوعين يعتنون بالخدمات والانماء وتطوير المجتمعات المحلية لتحسين حياة الناس في نطاقها الجغرافي. مع الأخذ بعين الاعتبار أن يكون هؤلاء المتطوعين إلى هذا العمل أبناء بيئاتهم وأحيائهم لكي يخدموها وينمّوها على الوجه الأفضل لأنهم الأقرب والأدرى والمعنيين الأكثر فيها.

خرق متمادي للدستور
هذا الخلط المقصود في الصلاحيات والمهمات لا يعيق عمل المجالس البلدية فقط وإنما هو خرقٌ متمادٍ للدستور الذي ينصّ في مقدمته (الفقرة هـ)  على الفصل بين السلطات. وبنتيجته نرى الناس تطالب النائب بالخدمات والمشاريع حتى صغيرها، وتنادي وتتنازع إلى حد التقاتل لتتمثل في البلديات! وهو خلط مقصودٌ لأن السلطة (الطبقة السياسية والنواب) تصادر بواسطته الإنماء والخدمات، وهي حقّ للناس، لكي تعيد توزيعها بنفسها على جمهورها مقابل ولاء هؤلاء وقد تحوّلوا إلى "زبائن" لديها. فتتحوّل البلدية غالبًا إلىى ما يشبه مكتبًا خدماتيًا لهذا النائب أو ذلك وأحيانًا لمجموع نواب المنطقة والمتنفّذين فيها (السلطة). من هنا نرى "طحشة" النواب والأحزاب على دعم اللوائح البلدية وغالبًا تأليفها على حساب الكفاءة والنزاهة، وعلى حساب مبدأ فصل السلطات. لتدعّم بذلك مدماكًا من مداميك الدولة "الزبائنية" العصيّة على التفكيك.

خطوة إلى الوراء
ولكن هل هذا ما يحتاجه الناس فعلاً؟ قد يكون هذا ما يطلبونه، أو ما تعوّدوا على طلبه والاكتفاء به. ولكن بالتأكيد ليس ما يحتاجون إليه. الناس من حقها التعبير عن نفسها، وقد تجد في الانتخابات فرصةً للتنافس المحلي والبروز والوجاهة. الدولة تعزّز هذا التصوّر وتغذيه بالممارسات وبالقانون الانتخابي. ليس عشقًا لحرية الناس وحقهم في التعبير، أو توسيعًا لدائرة القرار، إنما لأن أحلى ما تتمنّاه هو إغراق هذا الاستحقاق وتاليًا المجالس البلدية والبلدات والناس بهذا النوع من التنافسات العائلية والمحلية الضيّقة بديلا عن المشاريع والبرامج والخطط والخدمات الأساسية التي من المفترض أن تكون عناوين المشاركة والنضال للبدء بنزع المسؤوليات من السلطة المركزية، المتمسّكة بها ولكن العاجزة عن القيام بأعبائها، وتوزيعها على سلطات محلية منتخَبة.

من هنا ما انتهت إليه الانتخابات البلدية اليوم، ونحن على أبواب اطلاق ورشة اللامركزية الموعودة، يُعتبر بمعايير كثيرة هدرًا كبيرًا لفرصة مواكبة هذه الورشة، إن لم نقل خطوة إلى الوراء!

الابتعاد عن ما تحتاجه فعلاً المدن والبلدات وهو الشروع بأخذ الأمور بيدها، بكفاءة وخبرة واستقامة وصدق، سيكون أمثولة سيئة، إن لم نقل عقبةً، أمام تطبيق اللامركزية غدًا.

نتمنى أن لا تتعثر المجالس المنتخبة حديثًا كما تعثّرت مجالس الدورات السابقة ومن ثم دخلت في موت سريري طويل. فعلى الأقل أعذارٌ كضيق ذات اليد والسطو على الصلاحيات لم تعد مقنعة اليوم خصوصاً وأن معظم المرشحين الذين أصروا على الترشّح في ظل هذه الشروط التي يعلمها الجميع ومع ذلك تعهّد بالجنّة على الأرض!

الاشارات القليلة الايجابية التي رافقت الانتخابات، وهي في أغلبها شَكلية، كاضطرار معظم مَن ترشح إلى تدبيج برنامج انتخابي، لم تحجب حقيقة أن المجالس الفائزة، كالخاسرة، افتقدت إلى خطط واقعية لتنفيذ أكثر الوعود تواضعًا بما فيها تأمين التمويل والدعم واستدامته. فمثلا بعض المرشحين المتموّلين بدل التفكير في حلول علمية دائمة أو طويلة الأمد لهذه المسألة، يعرضون تمويلا من محفظته الشخصية!  وفي ذلك إلى جانب ضحالة خياله، تجاوز على المبادئ الأولية للادارة السليمة في إدغام الخاص بالعام وما سيجرّ ذلك على كافة الصعد من فساد وصعوبة في المساءلة الخ.

القانون الانتخابي الحالي باعتماد الترشّح الفردي واللوائح المفتوحة ونظام الفوز الأكثري لايدعم العمل الجماعي ولا فرق العمل ولا روحية الفريق. اللوائح المفتوحة غير جدّية ولو ادعت ذلك. هي مجرّد بوسطة تقلّ المرشحين وتنقلهم إلى خط النهاية من دون التزامات حقيقية. والسماح للناخب بتشكيل لائحته يضرب مبدأ عمل الفريق أو فريق العمل في الصميم، تحت شعار حرية الناخب وعدم فرض إرادة خارجية عليه. حريّة الناخب المقدسّة يجب أن تكون في اختياره قائمة بين القوائم التي ينبغي أن تحمل كلّ واحدة منها برنامجا معينا، وليس حرية الاختيار من القوائم!

اللامركزية الادارية المنشودة تعتمد في حلقتها الدنيا بشكل أساسي على المجالس البلدية. ولكن علىى مجالس متضامنة تستطيع إدارة أمورها والبلدات بحوكمة سليمة وكفاءة وخبرة بأحدث أساليب العمل المحلي، بما فيه الاطلاع على تحديات وحلول من تجارب بلديات وبلدات في الخارج، ونسج شبكات معرفية وعملية معها ومع منظمات وجمعيات تقدّم الدعم والمشورة والخبرة، للنهوض بها وتحرير إمكانياتها المعلومة وغير المعلومة. وليس على مجالس وجهاء وتشريفات غير منتجة.

بلدي بلدتي بلديتي
سنة 1997 أطلقت الجمعية اللبنانية لديمقراطية الانتخابات بالاشتراك مع عدد كبير من الجمعيات والشخصيات حملة "بلدي بلدتي بلديتي" للمطالبة بإجراء الانتخابات البلدية التي توقفت مع اندلاع الحرب الأهلية ولم تستأنف عند توقف الحرب سنة 1991. رافق الحملة إطلاق عريضة لجمع التواقيع ضمّت أكثر من مئة ألف توقيع من مختلف المناطق والقطاعات في لبنان وتوّجت بموافقة السلطة حينذاك على إجراء الانتخابات.

كان شعار الحملة، الذي اجترحه الصديق بول أشقر، موفقًا تمامًا وما زال صائبًا إلى اليوم. أحدُ معانيه يدعو الناس شبابا وشابات، رجالا ونساء، وخصوصاً الطامحين إلى العمل العام أو العمل السياسي في الأحزاب أو خارجها لعدم التكبّر عن العمل البلدي، لأن مَن يتعفّف أو يفشل في إدارة بلدته لن ينجح في إدارة بلده. وهي دعوة أيضًا للأحزاب التي تتراكض وتتسابق للفوز في مجلس هنا ومجلس هناك، أفرغتم الانتخابات من البرامج لصالح السياسة، اليوم وقد فزتم لا تفرغوا البلديات من الانماء لصالح الزعامة.

increase حجم الخط decrease

التعليقات

التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها