رفعت، الذي التحق بالجيش السوري في خمسينات القرن الماضي، صعد السلم العسكري والسياسي بسرعة غير مسبوقة. ترفيعاته جاءت متتالية، كما انضمامه لحزب البعث، في سعي واضح للتموضع تحت دائرة الضوء، في جيش وُلد من رماد جيش الشرق الفرنسي، ليبدأ صراع الأخوين على من يحكم الجبل... ثم البلاد.
لم يكن التعميم الذي أصدره رفعت الأسد، والذي أعلن فيه نفسه "القائد العسكري والمرجعية العليا" لأبناء الطائفة العلوية، مجرد خطوة استعراضية في صراع السلطة؛ بل كان بمثابة تحدٍ مباشر لشقيقه حافظ، سرعان ما تبعته إجراءات ميدانية عمّقت الانقسام.
ففي بيت زنتوت، لم يكتف رفعت بتحصين الفيلات، بل أمر بحفر أنفاق سرية تحت أراضي القرى المجاورة، ما جعل من الجبل نقطة اشتباك محتملة، وهدفاً عسكرياً في حسابات حافظ الأسد. ومع تصاعد التوتر، اقترب الصدام بين الشقيقين، قبل أن يتراجع حافظ في اللحظة الأخيرة، مفسحاً المجال لرفعت ليعيث نفوذاً مطلقاً داخل سجن تدمر، وعلى امتداد مدينة حماة، حيث ارتُكبت مجازر ما زالت محفورة في ذاكرة السوريين.
لكن الذاكرة الأكثر قسوة، والتي يصعب محوها حتى من سرديات الخوف، كانت حادثة نفذتها "سرية تشرين" التابعة لسرايا الدفاع، حين أقدمت على خلع الحجاب عن رؤوس النساء في بعض الأحياء، في مشهد أثار غضباً شعبياً عارماً. اضطر حافظ الأسد حينها إلى الخروج عن صمته، وأصدر بياناً رسمياً قال فيه إن "ما حدث تصرّف غير مدروس"، في محاولة لامتصاص الغضب دون المساس بموقع أخيه أو سلطته الفعلية.
خلاف الأخوين
في كتابه "ثلاثة أشهر هزّت سوريا"، يروي وزير الدفاع السوري الأسبق مصطفى طلاس تفاصيل واحدة من أخطر الأزمات التي شهدها النظام السوري في ثمانينيات القرن الماضي، حين حاول رفعت الأسد، شقيق الرئيس حافظ الأسد، تنفيذ انقلاب عسكري إثر دخول حافظ في غيبوبة مرضية عام 1984.
وبحسب طلاس، فقد تصاعد التوتر إلى حد المواجهة المباشرة بين سرايا الدفاع، القوة التي أنشأها رفعت وتضخمت حتى باتت جيشاً موازياً، وبين القوات الحكومية الموالية للرئيس. بلغ التهديد ذروته حين لوّح رفعت بإشعال العاصمة دمشق إذا لم تُسلَّم له مقاليد الحكم.
لكن حافظ الأسد، ورغم حالته الصحية الحرجة، نجح في احتواء الأزمة بطريقة تجمع بين الحزم والسياسة. أجبر شقيقه على مغادرة البلاد، بعد منحه مبلغاً مالياً ضخماً، تكفّل الزعيم الليبي معمر القذافي بتأمينه، في وقت كانت خزينة الدولة السورية شبه خاوية من السيولة النقدية.
غادر رفعت إلى منتجعه الفاخر في ماربيا الإسبانية، فيما طُويت صفحة سرايا الدفاع رسمياً. جرى حلّها جزئياً، وتم ضم بعض عناصرها إلى الجيش النظامي، في حين تحوّلت قصور بيت زنتوت، التي كانت معقل رفعت في الجبل، إلى حصن أمني تابع لماهر الأسد، الذي فرض سيطرته عليها لاحقاً.
وفي مشهد رمزي يعكس تبدّل موازين القوة، طُلب من سكان القرى المحيطة إزالة صور رفعت الأسد من منازلهم. وقد تم ذلك فعلاً، في لحظة مثلت نهاية مرحلة وبداية أخرى في تاريخ السلطة السورية.
في كل مرة كنت أصعد فيها نحو قمة ذلك الجبل، كانت الأسئلة تتكاثر في رأسي: ما مصير أولئك الذين سكنوه يوماً؟ الجبل ذاته الذي كان يوماً معقلاً لرفعت الأسد، أصبح اليوم ثكنة عسكرية لفصيل مسلّح قوامه نحو مئة مقاتل.
القرى القريبة تناقلت أنباء لقاء جرى مؤخراً بين هؤلاء المسلحين ومدير الناحية كما أكدوا لـ"المدن"، وذلك بعد موجة من الذعر اجتاحت المنطقة نتيجة المجازر التي ارتكبت عقب اشتباكٍ مع قوات "الأمن العام" في اللاذقية وبانياس. وفي الاجتماع، أكد المسلحون أنهم لن يغادروا مواقعهم، ولن يتعرضوا لأحد، ما لم يُعتد عليهم.
مشهد سريالي يليق بقمة جبل تبدّلت عليها السلطات وتآكل فيها المجد. هنا، كانت نقطة القوة الأولى لرفعت الأسد، وهناك أسس ابن شقيقه، ماهر، فرقته الرابعة، على ذات المسار، وسط أحاديث تتردد همساً عن صراع مكتوم بينه وبين شقيقه الرئيس، بشار الأسد.
واليوم، تقف قوات الرئيس السوري الجديد احمد الشرع ــ بوجهها الأمني الجديد، وراياتها المختلفة ــ على ذات الأرض، في ذات القصور، حيث صُنع تاريخ النظام السوري المعاصر.
فهل سيكون هذا الجبل شاهداً على ولادة تاريخ جديد، أم مجرد إعادة تدوير لفصولٍ قديمة بثوبٍ مختلف؟
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها