قُضيَ الأمر. لا هيئة إشراف على الانتخابات البلدية والاختيارية. تنفّست وزارة الداخلية والبلديات الصعداء. لن تَفتح عليها باب تشكيل هيئة جديدة تخلف الهيئة السابقة المنتهية ولايتها. ولن تحتار أين ستأوي أعضاءها وموظفيها وتجهيزاتها. وكم ستقتطع لها من موازنة الانتخابات.. ولن يعتب أحد على سقوط ثلاثة فصول كاملة من قانون الانتخاب.
لا رقابة على الاعلام والانفاق
ولكن إحزروا ماذا؟ الاعلام أيضًا تنفَّسَ الصعداء... وتنهَّد المرشحون.
لا سقف لإنفاق المنفِقين ولا رقابة على الاعلام، ولا حساب للحملة الانتخابية ولا رفع لسرّية مصرفية ولا قيود على المحطات، من دون أن يعني ذلك أن هيئة الاشراف بصلاحياتها وممارساتها كانت تشكّل فارقًا نوعيًا يؤسَف كثيرًا عليه. فالهيئة السابقة عانت من مشاكل بنيوية ليس أقلّها ضعف صلاحياتها الرقابية واضمحلال سلطتها التنفيذية وأحيانًا انعدامها، إلى محدودية مواردها المادية والبشرية، إلى افتقارها للخبرات المستدامة وإلى المأسسة. وهي أمورٌ لطالما اشتكى منها رئيسها وسجَّلها في تقارير الهيئة النهائية بعد انتخابات 2018 و2022. أضيفُ إلى ذلك تشكيل الهيئة نفسها وخُبُرات أعضائها المحدودة جدًا في مسائل تتحدّث وتتعدّل كلّ يوم على ضوء القفزات التكنولوجية كأساليب الرصد وتحليل المحتوى وقياس التحيّز والرقابة على الاعلانات والتمييز بين المدفوع وغير المدفوع وعلى المداخيل المرئية وغير المرئية، كالهدايا وساعات اليد الفاخرة وربطات العنق الموقّعة، وغيرها من خِدَع الشركات التجارية التي تملك وسائل الاعلام. أو أحيانًا وقوعها في أفخاخ التمييز بين مرشحين أو بين وسائل الاعلام وهي لم تستطع عمليًا، لضيق ذات اليد، من تغطيتها كلّها بالرقابة الدائمة. فمَن رصدته اتهمَها بالتحيّز. ومَن تفَلَّت نجا.
ولكن ما يؤسَف عليه حقًا هو التخلّي عن مكتسبات ديمقراطية والتراجع عن تشريعات وقوانين (على ضعفها) بدل تطبيقها وتطويرها وسد ثغراتها. أن تسقط 42 مادة من القانون، منها 27 في ضبط الإنفاق الانتخابي والحملات وفي ضبط وسائل الاعلام، يعني أن ترتفع نسبة الخلل في المساواة بين المرشحين وأن تنخفض فرصة اقتراع الناخب خارج ضغوطٍ ماديةٍ ومعنوية.
الهيئة المستقلة للانتخابات
في البداية، ما كنا نطمح إليه هي هيئة مستقلة لإدارة الانتخابات وليس للإشراف عليها فقط. هيئة كان اقترحها مشروع "الهيئة الوطنية لقانون الانتخابات"، التي ترأسها الوزير فؤاد بطرس (بين عامي 2005-2006). وضمَّت في عداد أعضائها خبراء وأكاديميين محترمين وذوو اختصاص. أعطوا الهيئة المستقلة صلاحيّات غير محدودة: من العمل على تطوير الثقافة الديموقراطيّة وتعزيز الوعي الانتخابي والإشراف على إعداد قوائم الناخبين وتنقيحها، إلى تعيين لجان القيد والإشراف على عملها وتوزيع أقلام الاقتراع وتعيين المسؤولين عنها وبت طلبات الترشيح. وكذلك مراقبة الإنفاق الانتخابي، بعد رفع السريّة المصرفية عن المرشحين وتقيّدهم ووسائل الإعلام بالقوانين التي تنظّم الدعاية الانتخابيّة والفصل في الشكاوى. إلى صلاحية تحريك النيابات العامة فورًا، والإشراف على عمليّة فرز الأصوات واحتسابها وإعلان النتائج. الخ. وقد ذهبت إلى وضع جميع الأجهزة الإداريّة والقوى الأمنيّة في تصرّف الهيئة خلال الفترة الانتخابيّة. في الخلاصة، أي كل ما تقوم به (ولا تقوم به) اليوم وزارة الداخلية وهيئة الاشراف.
استعاض المشرّع عن كل هذا بهيئة مبتورة لا تملك سوى صلاحيات رقابية من دون سلطة تنفيذية أو قضائية ومن دون نصوص تحدد بدقة عقوبات المخالفين ومَن يقررها وينفّذها وكيف. فإذا بها كأي جمعية أو هيئة مدنية تراقب الانتخابات. حتى حسابات الحملة الانتخابية، التي فرض القانون على كل مرشح تسليمها إليها ضمن مهَلٍ وحدّد قيمة غرامات التأخير، بقيت غالبًا شكلية ولم تنفّذ!
لماذا نتباكى عليها اليوم؟
لأنها على الرغم من كل ما تقدّم، تبقى حارسةً لموادٍ أساسية في القانون. تضبط، في حدّه الأدنى، الانفاق الانتخابي والحملات وسلوك المرشحين وتنافسهم ووسائل الاعلام. وعدم وجودها يعني العودة إلى مناخات انتخابات سابقة استشرى فيها الفلتان اللاديمقراطي من دون أي وازع أو مانع. ومن دون ضوابط تسقط المنافسة الشريفة بين المرشحين ويتفوّق مَن ينفق مالا وخدمات أكثر، ما همّ ما هو برنامجه وما هي خططه الانمائية أو إن كان لديه، بالفعل، أي خطة على الاطلاق.
ما هو منتظرٌ من المجالس البلدية هذا العام ليس أقلّ من قلب الطاولة على ممارسات المجالس السابقة. لقد سببت الأزمة الاقتصادية وانهيار العملة الوطنية تفسّخ وانحلال معظم أجهزة الدولة وإداراتها. وتفاقمت المشكلات المحلية التي تنتظر مَن يتصدّى لها بالفعل والكفاءة والارادة ولكن أيضًا بالعلم والخبرة والمهارة. من مشاكل النفايات والصرف الصحي إلى مولّدات الكهرباء والطاقة البديلة، إلى أزمات المياه والبيئة والتلوّث، إلى تبعات النزوح السوري على البنية التحتية والفوقية، إلى السلامة المرورية ومراقبة الأسواق والأسعار وتخزين البضائع والمطاعم والمقاهي والملاهي، إلى المدارس والمستوصفات والحدائق والمكتبات والملاعب.. وغيرها الكثير من الملفّات التي لم تعد المعالجات التقليدية تجدي نفعًا معها. والمعالجات غير التقليدية تستدعي مجالس غير تقليدية، تعبّد الطريق أمام اللامركزية المنشودة التي يبدو ستشقّ طريقها أخيرًا إلى التطبيق. مجالس من شباب وشابات كفؤين وأصحاب مدارك ومِهَن ومهارات وعقولٍ متدرّبة على استنباط الحلول بدل استيلاد الحجج والأعذار وما أكثرها عند فاقد الشيء.
هؤلاء الشابات والشباب وكل صاحب عقل نظيف الذين يتطلّعون إلى أخذ فرصتهم لتقديم ما يملكون إلى مجتمعاتهم وبيئاتهم المحلية، كانوا على الأقل ليجدوا في القانون سندًا معنويًا لهم يستطيعون التسلّح بنصوصه إذا ما خذلتهم أدواته. ولكن في غياب أي ضوابط على الانفاق والاعلام، ولو على الورق، سيصعب عليهم الدخول في منافسة عادلة مع أصحاب المال والفساد والخدمات والتاريخ الحافل بصرف النفوذ واستغلال المناصب. سيكونون كمَن يدخل حلبة ملاكمة مع ملاكم من وزن أثقل بلا كفوف وبلا حَكَم مباراة.
كان جديرًا بالانتخابات البلدية والاختيارية هذه السنة، وهي أول استحقاق انتخابي في العهد الجديد رئيسًا وحكومةً، أن تكون نموذجية من حيث القانون والتخطيط والتنفيذ. وأن ترسي ممارسات جديدة، كما جاء في خطاب القَسَم وفي البيان الوزاري، تُنسينا سنوات من "بالتي هي أحسن"، و "ليس في الإمكان أحسن مما كان" (...) وتؤسس لتقاليد تليق بالعهد الواعد وبالشعب اللبناني وحيويته وطاقاته وآماله. تخفيض سنّ الاقتراع والترشّح يلزمه تعديل دستوري وتعيين هيئة جديدة للإشراف وبعض التعديلات البسيطة التي تصنع فرقًا ولا تطال جوهر القانون، الذي يلزمه مستقبلا ورشة إصلاح كاملة، كانت لتمرّ في مجلس النواب وهي أهون على أعضائه من تعديل قانون إلغاء السرّية المصرفية الذي صُدِّق منذ أيام بساعات معدودة.
حسنًا فعل العهد بإصراره على إجراء الانتخابات في مواعيدها ولم يؤجلها يومًا واحداً. وهي إشارة جيّدة على احترام الاستحقاقات الدستورية. ولكن مع الأسف هذه المرّة كان في الإمكان أحسن مما كان!
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها