قدّم رئيس الجمهورية، جوزاف عون، مراجعتين أمام المجلس الدستوري، إحداهما تتعلق بتعديل قوانين تنظيم الهيئة التعليمية والموازنات المدرسية في المدارس الخاصة، بهدف توضيح بعض الأحكام لتسهيل تطبيقهما. وفي الدستور، هناك مادتين ترتبطان بشكل أساسي بموضوع مراجعة رئيس الجمهورية، هما المادة السابعة التي تنص على المساواة بين المواطنين، والمادة العاشرة التي تنص على التعليم حر، على أن يمارس وفاقاً للأنظمة العامة التي تصدرها الدولة. وأتت هذه المراجعة بعد نشر رئيس الحكومة نواف سلام القوانين، التي تمنع الرئيس السابق نجيب ميقاتي عن نشرها، بضغط من المدارس الكاثوليكية والبطريركية المارونية.
استراتيجية التملص من القانون
ترفض المدارس الخاصة تنفيذ هذا القانون حفاظاً على ارباحها وتتعامل مع نفسها كما لو أنها فوق القانون. وتاريخ المؤسسات التربوية الخاصة حافل بمخالفة القوانين. ومن بينها امتناعها عن تطبيق سلسلة الرتب لمعلمي التعليم الخاص المجاني، ورفض تطبيق القانون 47/2017 كاملا بحجة أنه غير قابل للتطبيق. أما فيما يتعلق بالقانون الذي طلب الرئيس عون مراجعته، فقد مارست المدارس حملات ضغط واسعة لعرقلة تطبيقه، ونجحت في عهد الرئيس السابق نجيب ميقاتي. وبعد نشره في الجريدة الرسمية مؤخراً، ترفض تطبيقه، وتعمل بالتوازي على تعديلات للقانون، بهدف حرمان المتعاقدين من حق التساوي مع زملائهم في الملاك، وتتهرب من تقديم براءة ذمة مالية.
يحاول اتحاد المؤسسات التربوية التملص مرة أخرى من تطبيق القانون رقم /٢/ المتعلق بتنظيم الهيئة التعليمية في المدارس الخاصة. وبمعزل عن مراجعة الرئيس عون، يعمل "الاتحاد" على تعديلات تفقد القانون مضمونه الرقابي والحقوقي والدستوري. ونجح في تمرير اقتراح التعديل في لجنة التربية النيابية، للحؤول دون دفع اشتراكات المتعاقدين لصندوق التعويضات، مع إبقاء التعويض للمتعاقدين في إدارات المدارس تتحكم وتتلاعب بهم من دون رقيب وبلا أي آلية حماية، على الرغم من اعتراض نقابة المعلمين.
تعسف المدارس بحق المعلمين
بالأمس زارني أستاذ صديق تم صرفه من الخدمة مؤخراً بعد نحو 30 عاماً من التعليم، رغم أنه لم يصل إلى سن التقاعد بعد. وقد توقفت إدارة المدرسة عن دفع الاشتراكت عنه لصندوق التعويضات منذ 2002. وسبق وحوّلت المدرسة عقده من أستاذ في الملاك إلى متعاقد في العام 2012 من دون أن تدفع له أي تعويض. وعند صرفه مؤخراً طلبت منه المدرسة التوقيع على ورقة قيل له إنها براءة ذمة كي ينال كل رواتبه. ولكن في الحقيقة تبين أن الورقة هي إبراء ذمة، أي اعتراف منه بأنه نال كل مستحقاته من تعويضات ورواتب وإنهاء عقده. صحيح أن هذا الصديق يتحمل مسؤولية جهله بالقوانين، ووقع في خطأ ثقته العمياء بالمؤسسة التي خدم بها نصف عمره، إلا أن القانون لا يحميه أيضاً فهو لا يملك أداة تخوله التحقق من حقوقه المنصوص عليها في القانون ولا حتى المطالبة بها عدا عن آليات التقاضي المعقدة والمكلفة.
مثال هذا الأساتذ الصديق المتعاقد يتكرر في كل المدارس الخاصة، بمعنى عدم تسجيله في صندوق التعويضات والتقاعد، وعلاقة التعاقد محصورة بإدارة المدرسة، وهي خاضعة لتسويات وإلتفافات على القوانين على حساب المعلم.
خارج أي حماية مالية وحقوقية
القانون رقم 2 الآنف الذكر أتى لينصف الأساتذة، ولا سيما المتعاقدين منهم، لأنه يلزم المدرسة بالتصريح عنهم لصندوق التعويضات. لكن التعديل الذي اقترحه اتحاد المدارس للقانون يقضي بحجب الدفع عن المتعاقدين للصندوق. ما يعني إبقاء يد المدراس مطلقة في صرف أعداد كبيرة من المعلمين بالملاك وتحويل عقودهم إلى تعاقد، خارج أي رقابة وتدقيق مالي، في المهلة القانونية المحددة، أي قبل الخامس من تموز وفق ما نص المادة 29 من قانون تنظيم الهيئات التعليمية في المدارس الخاصة. وعليه يحصل معلم في الملاك على تعويضه من الصندوق، لكنه يدخل في متاهة تحصيل حقه كمتعاقد من المدرسة.
ومن التداعيات السيئة لتعديل القانون رقم 2 أن المدارس تستطيع تقليص دوامات أساتذة الملاك إلى الحد الأدنى، بغية تخفض قيمة اشتراكاتهم بالصندوق، وتستعيض عن ساعاتهم بأساتذة متعاقدين. وهذا يؤدي إلى ارتفاع أعداد المتعاقدين على حساب الملاك بنسب كبيرة. فأساتذة الملاك يشكلون اليوم نحو 53 بالمئة من الهيئة التعليمية في القطاع الخاص. وهذه نسبة تعتبر في الأساس قليلة، ولا توحي باستقرار وجودة التعليم. وهي مقدرة إلى الارتفاع تماشياً مع رغبة المدارس في تخفيف الأعباء. وحينها تصبح غالبية المعلمين خارج أي حماية مالية أو حقوقية للتثبت. كما أن الصندوق، حسب التعديل المقترح، لا يدقق في نيلهم تعويضاتهم. أما الآليات القضائية للمراجعة فغير مشجعة وغير فعالة.
التلاعب بالموازنات المدرسية
تتضمن الأقساط المدرسية تعويضات المتعاقدين، ويسددها الأهالي سنويا ضمن الموازنة المدرسية. ولكن ليس لدى لجان الأهل آلية للتثبت من دفع هذه التعويضات. ففي دراسة موزانات مدرسية سابقة قام بها اتحاد لجان الأهل، تبيّن أن المدارس تتلاعب بعدد الساعات. وفي إحدى المدارس المرموقة تبين أنها سجلت 4 معلمات يتقاضين رواتبهن وهن خارج البلاد. كما ثبت تسجيل عاملتين خدمة نظافة كمعلمتين، هذا فضلاً عن تسجيل ساعات تدريس للمعلمين بمعل 2-3 معلمين في الحصة الواحدة، ومخالفات عدة لا يتسع تعدادها هنا.
بمعنى آخر، يمكن لإدارة المدرسة التلاعب ببيانات الموازنة المدرسية وتسجيل ما تشاء من ساعات التعاقد وأسماء معلمين وهميين لترفع الأقساط المدرسية، وتعود لتجني أموالاً إضافية من تعويضات وهمية للمتعاقدين. العكس يحصل فيما لو كان التصريح عن التعويضات أو دفع رسوم عن المتعاقدين للصندوق إلزامياً. في هذه الحالة تصبح المدرسة ملزمة بحفظ حق المعلم لناحية دفع التعويض للمتعاقد على أساس قيمته المسجلة في الصندوق، بناء على تصريح سنوي. وهذا أحد أسباب رفض المدارس تطبيق القانون الانف الذكر.
أكثر ما يحتاجه الأهالي والمعلمين والمدارس، هو آليات رقابية شفافة وحوكمة وتدقيق مالي. فالتعديل الذي جرى في اللجان المشتركة على القانون رقم 2 هو إستعادة لآليات التهرب من الرقابة والشفافية والحوكمة. وهو محاولة لتحرير العقود من أي نظام رقابي شفاف يحفظ حقوق الأهالي والمتعاقدين. بل أكثر من ذلك هو إطار لتحرير المدارس من القانون 515/96 ومن قانون تنظيم الهيئات التعليمية، وقد يصل إلى رفع وصاية وزارة التربية عن المدارس الخاصة. وهذه مخالفة دستورية تسعى إليها المدارس الخاصة منذ عقود.
مكافأة المدارس على هدر المال العام
تفلّت المدارس من آليات الرقابة التي يفرضها القانون، وفرض أقساط مدرسية غير خاضعة لرقابة لجان الأهل، لها تداعيات مباشرة على الخزينة العامة للدولة. فالمبالغ التي تدفعها الدولة من الخزينة لدعم التعليم الخاص، عبر المنح والتقديمات المدرسية والصناديق المدعومة، تمثّل مرة ونصف موازنة وزارة التربية. وهذا معطوف على أنه مع كل زيادة تجريها المدارس على الأقساط، تعود الدولة وترفع قيمة المنح والمساعدات المدرسية. وهذا العام زادت تعاونية موظفي الدولة قيمة المنح المدرسية بنسبة 17 بالمئة، فيما المدارس رفعت قيمة أقساطها بالدولار، لتوازي ما كانت عليه قبل الأزمة المالية. بمعنى آخر، في ظل هذه الحلقة المفرغة، يستمر هدر المال العام من دون رقابة، والمستفيد الأول المدارس الخاصة. وعوضاً عن تطبيق القانون الآنف الذكر، يعود المسؤولون ويكافئون المدارس الخاصة بمنحها أدوات إضافية للتهرب من الرقابة، لتكديس الأرباح، من جيوب أهالي الطلاب ومن المال العام.
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها