1- عدم وجود ثقافة مدنية ومواطنية تعتبر المناصب العامة مسؤوليات لخدمة العامّة وليست مكافآت خاصة لشخصيات بعينها. فحتى النواب المنتخَبين يخضعون إلى هذه القاعدة، هُم بانتخابهم كوفئوا على مواقفهم وممارساتهم السابقة أو برامجهم أو وعودهم. ولكن هم انتُخِبوا أساسًا ليمارسوا دورًا تشريعيًا وتمثيليًا ورقابيًا ينتظره منهم ناخبوهم، الذين بدورهم مُفترض بهم محاسبتهم في الانتخابات. وكذلك بالنسبة لأي متبوأ لمسؤولية عامة.
2- هناك تصوّرٌ أو فهمٌ خاطئ لدور النائب لم يسعَ أحدٌ جدّيًا لتصويبه. وهو إضافة وظيفة خدماتية إلى مهامه الآنفة الذكر. وهذا ليس فقط مخالفاً للقانون بل هو أيضاً تجاوزٌ فاضح للدستور الذي نصّ صراحة على فصل السلطات التشريعية والتنفيذية. فالخدمات العامة هي مسؤولية السلطات التنفيذية حصرًا (الوزارات والإدارات إلى السلطات المحلية من المحافظة حتى المجالس المحلية الأصغر بلدية واختيارية) ولكن ليس على الاطلاق وظيفة النائب.
3- بالمثل ولكن عكسيًا هناك تصوّر وفهمٌ خاطئ لدور ممارسي السلطة التنفيذية المعيّنين (الوزراء) والمنتخَبين (أعضاء المجالس البلدية). لأسباب مختلفة يختلط الأمر عليهم وعلى الجمهور. السلطات التنفيذية ليست تمثيلية للشعب (مهمة البرلمان)، وإنما إدارية لشؤونه ولشؤون الدولة وخدماتية بمعنى مسؤولة عن تنفيذ المشاريع وتأمين وصول الخدمات (بما فيها الأمنية) إليه بدون أي نوع من أنواع التمييز. في الواقع اللبناني وبسبب التفاوت الكبير في النمو الاقتصادي بين المناطق ظهرت أحيانًا أعراف تنادي بتمثيل المناطق في الحكومة. ولكن هذا التمثيل لم يكن الهدف منه "تمثيلي" للشعب، وإلا سيكون مخالفًا لمبدأ فصل السلطات في الدستور، وإنما ضمانة مزعومة لوصول الإنماء إلى هذه المناطق (الأمر غير المؤكد في الواقع، فلطالما حظيت مناطق بوزراء وبرئاسة مجلس الوزراء مرّات عديدة من غير أن تحظى بالإنماء المنشود!). وبالمثل المجالس البلدية، فتمثيل العائلات مفيد لشمول خدمات البلدية جميع ساكني نطاقها وإدارة شؤونها المحلية بتوازن يراعي الجميع ولا يكون على حساب أحد. ولكنه في الحقيقة ليس شرطًا مانعًا لتطوّر البلدات والمدن إذا ما حظيت بمجلس كفوء وعادل ومنزّه عن المحسوبيات.
4- اعتبار الشخص المنتَخَب أو المعيَّن واسطةً للجمهور لتحصيل حقوقه وأحيانًا كثيرة للحصول على أكثر منها أو حتى على ما ليس من حقّه أساسًا. تعزز الدولة اللبنانية (طبيعة النظام قانونًا وأعرافًا وممارسات) هذا الاعتبار وتشجّعه. كيف لا وهي في النهاية مجموع هؤلاء الاشخاص، وقد أصبحوا هُم رجال الدولة، سيبادلون المواطنين (ناخبيهم) بخدمات (عامة وخاصة).
5- يأس أغلب المواطنين من تحصيل حقّهم بالخدمات العامة بواسطة المؤسسات والأنظمة القائمة، وضعف شعورهم باللجوء إلى القضاء عند النزاعات بسبب بطئه وتقاعسه أحيانًا، وعمومًا عدم ثقتهم فيه.
6- كيف سيبادل هؤلاء مواطنيهم الخدمات؟ باستغلال مناصبهم والنفوذ الذي توفّره لهم وصرفه، غالبًا خلافًا للقانون والنظام وباستنسابية لن يفيد منها سوى "زبائن" بِعَينهم.
هذا غيضٌ من فيض وقائع تشكّل دعامة "فساد متبادل" يضعف المناعة المواطنية لدى شرائح واسعة من المجتمع ويمنع المحاسبة ويزوّر إرادة الناخب، كحلقة مفرغة لا تنكسر بين السبب والمسبِّب.
آليات صرف النفوذ
بعد وصول "بطلنا" إلى المنصب المشتهى كيف يصرف نفوذه؟
نادرًا ما يتعفّف صاحب المنصب عن التدخل في الانتخابات (العامة والمحلية) لمصلحة مرشح (أو لائحة) خلافًا للقانون. ولأن شبكة الزبائنية والمحسوبية منسوجة بتأنٍّ فهو يستغلّ علاقاته العامة والخاصة وموظفيه ومَن هم دونه رتبة ومرتبة ومَن ساعد في إيصالهم، لمحاولة التأثير على ضمائرهم وتوجيههم لانتخاب مَن يريد.
الوزير يعتبر أن من حقه التدّخل في الانتخابات النيابية والبلدية وحتى الاختيارية لمصلحته الشخصية إذا كان هو المرشّح، أو لمصلحة حزبه. وهذا التدخل يتم بتسخير وزارته لخدمة هذا الهدف، إن في حشوها بالموظفين من أنصاره (أو حزبه) دائمين ومتعاقدين ومياومين وأصحاب عقود وخدمات مدفوعة، أو في تدشين مشاريع إنمائية محلية في منطقة نفوذه حصرًا وتجيير هذا التدشين خدمة لانتخاباته. أو أيضاً في الطلب ممّن "خدَمهم" سابقًا بردّ الجميل وتوظيف أشخاص أو تمويل حملات أو المساهمة فيها. نزولا إلى حدّ تزفيت الشوارع والأحياء، خلافًا لكل أيام السنة بالرغم من المطالبات، لإبراز خدماته طازجةً للناخبين من أجل شراء أصواتهم. وشعبية جدًا وواقعية النكتة السائدة بأنه خلال الانتخابات يصل الزفت إلى سطوح المنازل!
صرفُ النفوذ هذا ينطبق أيضًا على النائب المرشّح، الذي بعلاقاته خلال ولايته المنتهية حصّل نفوذًا في الإدارات العامة في نطاق دائرته الانتخابية. وكذا رئيس البلدية وأعضائها! الجميع يمتّع نفسه بكرسيه والسلطة النسبية التي يوّفرها له والتي يسعى طيلة ولايته لجعلها متناسبةً مع طموحاته.
ثغرات في القانون
اليوم على بعد أقل من شهر على الانتخابات البلدية، تشهد بلدات وقرى ورشات حَفر الطرقات الداخلية لتزفيتها، تقيمها مجالس بلدية تسعى لإعادة انتخابها، بعد أن حجزت الزفت طويلا عن الحُفَر والخنادق التي لطالما كسّرت سيارات المواطنين طيلة السنوات الماضية. وهذا مثالٌ فاقعٌ عن صرف النفوذ واستغلال المنصب للقيام بالواجب متأخرًا ولكن طازجًا للاستخدام. وكذلك الأمر بالنسبة لاستعمال المؤسسات العامة والبلديات لإجراء اجتماعات ولقاءات انتخابية وكأنها مِلكٌ خاص.
على الرغم من وضوح هذه المخالفات القانونية وغيرها لا أحد يتحرّك، وكأنّ الأمر عاديٌ ولا يستأهل كلفة رفع الصوت! وتستمرّ الحياة وتستمرّ تجاوزات مَن يُفترَض به ملاحقتها!
من جهة ثانية، يمنع القانون إقامة المهرجانات والعراضات داخل مراكز الاقتراع وخارجها، ويمنع التصاريح لوسائل الاعلام خلال فترة الصمت الانتخابي. الأمر الذي لا يحترمه عدد كبير من "أصحاب النفوذ والحظوة" ولا يحترمه عدد كبير من وسائل الاعلام بحجج مختلفة. النتيجة انتهاك صارخ للمبادئ البديهية لأي انتخابات ديمقراطية وهي ضمان تكافؤ الفرص أمام المرشحين.
هذه الأفعال تُعتبر مخالفة صريحة لنص المادة 77 من القانون كما رأينا. لكنّ المشكلة أن هذه المادة في القانون تحدد المخالفات بشكل صريح، وتسكت عن تحديد العقوبة اللازمة وسُبُل تطبيقها. وعليه لم ترتدع المخالفات لا بل ازدهرت!
اشترك معنا في نشرة المدن الدورية لتبقى على اتصال دائم بالحدث
التعليقات
التعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها